مدح السلف السنة، وذموا البدعة، والسنة هي الطريقة، كما قال القائل: من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها أي: طريقة يلتمسونها.
والبدعة لم تكن سنة سابقة، ولكنها أمر جديد لا عهد له من قبل، ولذا قال مالك رحمه الله: من سن سنة وزعم أنها حسنة -يعني: ابتدع شيئاً لم يكن موجوداً وظن أنه حسنة- فقد اتهم محمداً صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الرسالة.
وقد ورد عن ابن المبارك أنه قال: من ابتدع بدعة في الإسلام فقد خون رسول الله في الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ، فبعد الإكمال والإتمام من الذي يدعي النقصان؟! فـ مالك رحمه الله يرى أن من ابتدع في الدين شيئاً وقال: هذا حسن اعملوا به، أو خذوه عني، ولم يكن لهذا الأمر سلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه، فإنه يكون ابتداعاً جديداً في دين الله، والآتي به يلزمه أنه خون رسول الله صلى الله عليه وسلم في البلاغ؛ لأن الله قال: (أَكْمَلْتُ لَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) ، وليس بعد الكمال إكمال، ولا بعد الإتمام إتمام، فالدين قد كمل، فإذا جاء إنسان وقال: خذوا بهذا، فمعنى ذلك: أنه بقي في الدين ثلمة، وهذه تتمتها! فيتعارض مع (أَكْمَلْتُ) و (أَتْمَمْتُ) .
قال الإمام مالك قاعدة مشهورة وهي: لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم التشديد في البدع حيث قال: (كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) ، أي: مردود على صاحبه، والعلماء يتكلمون عن المبتدعات في مراتبها وأحكامها، وقد تغلظ البدعة بحسب الزمان أو المكان، فشدد صلى الله عليه وسلم البدعة في خصوص المدينة، ولعن من أحدث فيها بدعة فقال: (لعن الله من أحدث فيها، أو آوى محدثا) ، لماذا؟ لأن المدينة عاصمة الإسلام، وموئل الإيمان، وهو يأرز إليها كما تأرز الحية إلى جحرها، ويأتي إليها المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، فلابد أن تبقى المدينة على السنة المطهرة، نيرة واضحة لا تخالطها بدعة؛ لأن من رأى البدعة فيها ظن البدعة سنة.
وأشد الناس في التحذير من البدع مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى، ففي ترجمته أن ابن مهدي -وهو من العلماء المشهورين- جاء وصلى في المسجد النبوي في الصف الأول، وألقى رداءه بين يديه، فلما أنهوا الصلاة، أخذ الناس ينظرون إلى الرداء وينظرون إلى مالك فقال: من هنا من الحراس؟ فجاء اثنان، فقال: خذاه إلى الحبس، فذهبا به إلى الحبس، وفي رواية أخرى: جاءه الحراس فقال: إلى أين؟! قالوا: إلى الحبس، قال: لماذا؟! قالوا: بأمر أبي عبد الله، قال: اذهبوا بي إلى أبي عبد الله، فذهب الحراس به إلى أبي عبد الله مالك بن أنس، فقال: تحدث في مسجد رسول الله ما لم يحدثه أحداً قبلك؟! قال: يا أبا عبد الله! إن الجو حار كما ترى، وثقل عليّ ردائي فطرحته بين يدي، قال: آلله ما أردت مخالفة من قبلك؟ قال: والله! ما أردت مخالفة من قبلي! قال: لا تعد لذلك، ولا تحدثن في مسجدنا ما ليس فيه! هكذا يعتبر مالك طرح الرداء بين يديه وهو يصلي حدثاً، ويأمر بفاعله إلى الحبس! ويقول ابن سرحون: في القرن السابع الهجري كان هناك خدام في المسجد النبوي، فإذا أقيمت الصلاة نظروا: فمن صف وحده خلف الصف، ولم ينضم إلى الصفوف الأولى انتظروا حتى يسلم، فيأخذون به إلى الحبس؛ لأنه أحدث في مسجد رسول الله ما ليس منه، ولماذا لا يقف مع الصفوف الأولى؟ وكان من يطرح السجاجيد في الصف الأول ثم يذهب، يأخذونها إلى بيت مال المسلمين، لماذا يحجز في المسجد ما ليس له حق فيه؟ وجاء رجل إلى مالك رحمه الله وقال: أريد أن أحرم من المسجد النبوي، قال: لا تفعل، أحرم من حيث أحرم رسول الله من ذي الحليفة، قال: يا مالك! وما الذي يمنعني أن أحرم من مسجد رسول الله من عند القبر الشريف؟! قال: أخشى عليك الفتنة، قال: وأي فتنة في أميال أزيدها؟ قال: هذه هي الفتنة التي أخافها عليك، أن تظن بنفسك أنك سبقت إلى عمل لم يسبقك إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: تظن في نفسك أنك في إحرامك زدت أميالاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى هذه الدقة! ولهذا صدر منه هذا التشديد: (من سن سنة وزعم أنها حسنة، فقد زعم أن محمداً خان الرسالة) .
ولـ مالك في هذا مواقف عديدة، وهو من أوسع الأئمة في سد الذرائع.
فمثلاً: كره أن يتبع الصائم ستاً من شوال برمضان، مع أن الحديث فيه: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر) ؛ لذا يقول المالكية: لا تجعل صيام الست من شوال عقب رمضان مباشرة، بل وزعها خلال الشهر بعيداً عن رمضان؛ لأن هذا الأصل موجود في السنة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم اليوم الذي يشك فيه، أي: مخافة أن يتخذه الناس سنة، ويلازمون عليه فيلحقونه برمضان، فصانت السنة رمضان من أن يزاد في أوله أو يلحق في آخره، فالعيد في آخره يحرم صومه، ويوم الشك في أوله يحرم صومه، ليبقى رمضان على عدته لا يزاد ولا ينقص منه.
والله سبحانه يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] ، فالذين من قبلنا فرض عليهم صيام رمضان ولكنهم ضيعوه، كما فرضت عليهم الجمعة فضيعوها، وبأي شيء ضيعوا رمضان؟ جاء في بعض الروايات أنهم كانوا يصومون يوماً قبله احتياطاً، ويوماً بعده احتياطاً، ولما طال الزمن أدخلوا الاحتياط في صلب الفرض، وهكذا عدة مرات حتى زادوا فيه خمس مرات، أي: عشرة أيام، وأصبح رمضان عندهم أربعين يوماً، وإذا جاء رمضان في شدة الحر وعجزوا عن صومه، نقلوا الصوم إلى الربيع! وهذا هو صوم النصارى كما نعلم.
فرأى مالك رحمه الله مع وجود الحديث كراهية أن يلصق ستاً من شوال برمضان، ويقول الشاطبي: وما خافه مالك قد وقع بالأندلس؛ لأن الأمراء هناك كانوا يلزمون الذين يوقظون الناس للسحور بالبقاء على مراسم الصوم في رمضان ستة أيام من شوال، فإذا انقضت قاموا بشعائر العيد، ولقد أدركنا أشخاصاً يصومون رمضان إلى يوم العيد، ويبدءون الصوم حتى اليوم السابع من شوال، ثم يجعلون اليوم الثامن عيداً! فما خاف منه مالك وقع فيه بعض الناس.