ثم قال عليه الصلاة والسالم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة) ، وهذا التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم يقف عنده العلماء طويلاً، ويبحثون فيه بحثاً وافياً واسعاً، وأوسع من كتب في هذا الباب هو الإمام الشاطبي رحمه الله في كتاب الإعتصام، وكذلك القرافي في الفروق بين السنة والبدعة، فعلى طالب العلم ومريد المعرفة حقاً أن يرجع إلى هذين الكتابين ليعرف حقيقة السنة من البدعة.
ومجمل ما يقال في ذلك: إن البدعة، والإبداع، والابتداع، مأخوذة من البِدْع، والبِدْع والبِدْء في اللغة بينهما تقارب، تقول: هذا بدء الشيء، وفلان ابتدأ العمل الفلاني، وتقول: هذا بدع، وفلان ابتدع الأمر الفلاني، وليس بين البدء والبدع إلا العين والهمز، ويقول علماء فقه اللغة: إذا توافقت المادتان في أكثر الحروف واختلفت في حرف واحد، كان بينهما صلة وقرابة في المعنى والدلالة، وبقدر اقتراب الحرفين المختلفين من مخرجهما كان قرب هاتين الكلمتين في المعنى، وإذا نظرنا إلى بدأ وبدع، وجدنا الهمزة والعين من حروف الحلق، تقول: (أء) ، وتقول (أع) ، إلا أن العين أقرب، فكل بدع له ابتداء، وتميز البدع ببدء شيء لا نظير له، أي: وجود شيء على غير مثال سابق، ومنه: {بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:117] ؛ لأن الله بدأ خلقهما على غير مثال سابق، فخلق السماوات والأرض يجتمع فيه البدء والبدع؛ لأن البدء هو بدء خلقهما، والبدع لأنهما على غير مثال سابق.
وكذلك قوله سبحانه في حق رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:9] أي: قد تقدمه رسل متعددون، ولم يكن هو في بداية مجيئه بدعاً على غير مثال، بل سبقه رسل في أمم.
وهكذا قالوا: البدعة هي إيجاد شيء ليس له نظير في الشرع، ولم يعرفه الصدر الأول عمن له حق التشريع من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو الخلفاء الراشدين.