إذا نظرنا -أيها الإخوة- إلى هذا المجتمع: فريق يأتي وقد باع دنياه وأقبل على آخرته، وفريق يؤثر غيره على نفسه؛ فكيف يكون هذا المجتمع؟! لو وقفنا وقفة تأمل عند هذه العوامل النفسية، ورجعنا إلى الهجرة النبوية الكريمة، لوجدنا عجباً! فالمدينة موارد اقتصادها زراعة، وتجارة، وبعض الصناعات وأكثرها بيد اليهود، والزراعة موزعة بين اليهود وبين الأوس والخزرج -أي: أن عملية الإنتاج والنمو محدودة- ومع ذلك تستقبل آلاف المهاجرين إليها، كيف كان ذلك؟ بسعة صدر أهلها، وفي الوقت الحاضر أرسلوا أناساً من مخلفات الحرب، فردوهم إلى بلادهم، وتجد السفينة تطوف بالفتناميين على الموانئ فلا يقبلهم أحد، وبريطانيا تأبى أن تنزل إلا ألفي رجل فقط، لماذا؟ لأنها ستؤدي ضائقة اقتصادية.
لكن المدينة النبوية بحدودها الضيقة واقتصادياتها البسيطة تستقبل آلاف المهاجرين إليها، لا بوفرة اقتصاد، ولا بكثرة نماء، ولكن بسعة صدور أهلها: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] .
ولذا كان أول عمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة: المؤاخاة بين المسلمين المهاجرين أنفسهم، والمهاجرين والأنصار، وكان الأنصاري يشاطر أخاه ماله، حتى أن بعضهم يقول: عندي زوجتان، فانظر أيهما تطيب لكم لأنزل لك عنها، وتعتد وتتزوجها، فيقول له: بارك الله لك في مالك وفي زوجاتك! دلني على السوق.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه يؤاجر نفسه لامرأة في نضح الماء من البئر، وكل دلو بتمرة، نفوس عالية، والمال صنو النفس.
والمال والولد قرينان في الخير والشر، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:15] سبحان الله العظيم! ويقول في باب العطاء: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:32] فالمال قسمة رزق، وليس بجدك وبكدك ولا منصبك، لا والله! ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا هلكن إذاً من جهلهن البهائم وكذلك الولد، ليس بقوتك، ولا بإنجاب زوجتك، ولكن هبة من الله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى:49-50] ، من يدعي غير هذه المشيئة؟! فإذا كان الولد هبة من الله، والمال قسمة من الله، فالمال صنو النفس، والمال صنو الولد، فكونك تخرج من مالك شيئاً، فكأنك أخرجت جزءاً من ولدك، فمن الذين يعاوض على الصدقة؟! الله، إذاً: (الصدقة برهان) ، ومن أي شيء تكون الصدقة؟ المولى سبحانه يبين فيقول: {أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ} [البقرة:267] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً) .
ولذا: تجد الكافر لا يتصدق، وقد تسمع بأنه تبرع لمستشفى أو لمدرسة، لكن لا يبغي بها وجه الله، إنما يريدها سياسة في الناس، وتقرباً إليهم، أما المنافق الذي يظهر الإسلام فإذا سئل الصدقة يتوارى، ويحتال، كما بين سبحانه فقال: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] ، نفسك لا تطيب أن تأكله، فالمنافق يبحث عن الشيء الرديء، ويقدمه -فقط- ليستر عورة، ولكن المؤمن لا يفعل ذلك، فهو يتعامل مع المولى سبحانه.
ولو نظرنا الآن في نظام العالم المادي الذي يفرض الضرائب على الأفراد، وقارنا بينه وبين نظام الإسلام الذي يجعل الزكاة طهراً ونماءً، نجد في العالم صاحب المحل يتحايل مع مفتش الضرائب، فيجعل دفتراً للمفتش، ودفتراً للدكان حقيقة، وكل ذلك لكي لا يدفع للدولة شيئاً، فهو يراها خسارة، مع أن الدولة تنفقها في المصالح العامة: في الطرق والمستشفيات والجيش وغيرها، ولكنه لا يريد أن يدفع، أما الزكاة أو الصدقة فيخرجها دون أن يطلبها منه أحد، وهذا حال المؤمن، وهذا مثل يضربه لنا أعرابي في الصحراء، أتاه عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم لأخذ الزكاة، فيعد أبله، فيقول: أخرج من إبلك بنت مخاض، وبنت المخاض من لها سنة ودخلت في الثانية، يعني: أمها ماخض في أختها، فيقول الرجل: بنت مخاض؟! وفي سبيل الله؟! كيف هذا؟ لا هي ضرع فيحلب، ولا ظهر فيركب، ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله، فيقول العامل: ما بهذا أمرت، فنصاب الإبل خمس وفيها شاة، إلى عشرين وفيها أربع شياة، إلى خمس وعشرين وفيها بنت مخاض، ولا أستطيع أن أتعدى ذلك، فإن أخذت أكثر من ذلك ظلمتك، وتعديت حدودي، فالعامل يقول: لا أتعدى ما عندي، وصاحب المال يقول: لا أدفع بنت مخاض، ولكن أدفع ناقة كوماء! هل رأيتم خصومة مثل هذه؟ هذا شيء بعيد عن الحسبان.
فالعامل يقول لصاحب المال: لا تجهد نفسك معي، هذا حدي، وإن كنت تريد ذلك فدونك رسول الله بالمدينة فاذهب بها إليه، وكان في الحنكية وهي منطقة تبعد حوالى مائة كيلو عن المدينة، فيأتي الرجل بالناقة الكوماء بدلاً عن بنت المخاض إلى رسول الله، فيعرض العامل على رسول الله قضيته، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أطيبة بها نفسك؟ قال: نعم والله يا رسول الله! فيقول للعامل: خذها، ويقول لصاحبها: بارك الله لك في إبلك) ، فيعيش صاحب الإبل إلى خلافة معاوية، وكان يدفع عشرات الرءوس من الإبل في زكاة ماله؛ لأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالبركة لم يذهب هباءً.
وهذا ما يفعله الإيمان، والإيمان بالغيب أول قضية في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] بسم الله الرحمن الرحيم {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1-3] ومن الغيب: يوم القيامة، والجزاء والحساب، فإذا آمن حق الإيمان تيقن أن الدنيا كلها لا تساوي شيئاً، فأخرج من ماله، وكم من مسلم أخرج من ماله عدة مرات، وليس الأنصار وحدهم الذين يؤثرون على أنفسهم، بل أيضاً من المهاجرين؛ لأن الإيمان في قلب الجميع سواء، فهذه أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها صامت ذات يوم، وبعد العصر جاء مسكين يقول: مسكين يا آل بيت محمد! فتقول عائشة لـ بريرة: أعطي المسكين، فتقول: والله! ليس عندي ما أعطيه، فقالت: ولا شيء؟ قالت: عندنا قرص شعير ستفطرين عليه في المغرب، يعني: ما عندنا إلا طعامك وأنت صائمة، فقالت عائشة: أعطي المسكين قرص الشعير! وعند الإفطار يرزق الله! يا سبحان الله! بالله عليكم هل واحد منا يعمل هذا؟! فتمشي بريرة وتقول: أعطي المسكين قرص الشعير، وعند الإفطار يزرق الله، وترددها مستعجبة! فلما جاء المغرب قامت عائشة رضي الله تعالى عنها لتصلي، وفي أثناء الصلاة طرق الباب، فلما فرغت عائشة من صلاتها، التفتت فإذا بشاة مشوية بقرامها! والقرام في اللغة: إما جميع الشاة، يعني مشوية كلها، وما أخرج منها شيء، مع الكبدة، والكرشة، والمقادم، والرأس، وكل شيء، وبعضهم يقول: كان من عادة العرب إذا أرادوا أن يأكلوا اللحم مشوياً، فبعدما يسلخوها يأتون بالدقيق، ويصنعون العجين اللين، ثم يغمسون الشاة في العجين، ويطلونها من خارجها، ثم يضعونها على الجمر، وتنضج الشاة من داخل، وقد عرفوا الوقت المحدد لهذا، فيكشفوا عنها الجمر، وأخرجوها بلباسها، وإذا أرادوا أكلها نزعوا عنها هذا اللباس من العجين، فكأنها موزة وتقشرها، فهذه الشاة جاءت لـ عائشة بقرامها، فقالت عائشة لـ بريرة: ما هذا يا بريرة؟ قالت: يا أم المؤمنين! لقد جاء بها رجل، والله! ما قد أهدى إلينا قط! فضحكت وقالت: كلي، هذا خير من قرص شعيرك، والله! لا يؤمن العبد ويكمل إيمانه بالله، حتى يكون يقينه بما عند الله أقوى مما في يده.
تقول: الإنسان لا يكمل إيمانه أبداً حتى يكون يقينه فيما عند الله أقوى من يقينه مما في كفه، فقد يأتي أحد الناس ويأخذها غصباً عنك، لكن المكتوب لك عند الله -مضمون، فهذه أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها آثرت غيرها على نفسها وفي شدة الخصاصة بقرص الشعير.
إذاً: (الصدقة برهان) أي: على صدق الإيمان.
وهناك آداب للصدقة مثل: قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) ، ويقول: (الرياء هو الشرك الأصغر) .
والإسلام يأمر بهذه الآداب مع المساكين لحفظ شعورهم، والمحافظة على ماء وجههم: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] ، لا تقل له على رءوس الأشهاد: خذ اذهب اشترِ كيس بر، خذ اذهب اشترِ رزاً لبيتك، فهذا لا يصح، فأين إخفاء الصدقة؟ يقولون: كان في المدينة خمسون بيتاً تأتيها أرزاقها عند مطلع كل شهر: دقيق، وسمن، وغيرها، ولا يعلمون ممن تأتيهم، في ظلام الليل يطرق الباب، ولا يدرون من الطارق فيفتحون الباب فيجدون السمن والدقيق ولا يعلمون من أتى به، فلما توفي علي بن الحسين رضي الله عنه انقطعت هذه الأشياء، فعلموا أنها كانت منه.