قانون الحياة على المعاوضة، وأنت لو رأيت إنساناً يخرج ريالاً واحداً ويمزقه، فماذا تقول عليه؟ سنقول: إنه مجنون، لكن لو رأيته يدفع مليون ريالاً لبيت يسكنه، فستقول: إنه رجل عاقل، ومدبر، ويعرف مصلحة نفسه، ويعرف أين يضع المال.
إذاً: تقديم ريال واحد بدون عوض جنون، وليهنأ المدخنون بهذا الجنون! فكل إنسان ينفق مالاً في غير ما عوض فهو من هذا الباب.
وإذا كان قانون الحياة المعاوضة، ولا تدفع درهماً إلا لمقابل، فإذا دفعت الصدقة لمسكين فأين المقابل؟ العوض عند الله، فالمتصدق يتعامل مع الله، ويقرض الله قرضاً حسناً: (إن أحدكم ليتصدق بالصدقة، فتقع أول ما تقع في كف الرحمان، فينميها له كما ينمي أحدكم فلوه حتى تصير كجبل أحد) ، والفلو: ولد الفرس الصغير؛ وذكره لأن محبب حتى عند غير صاحبه، فكما يعتني صاحب الفلو بفلوه وينميه حتى يصير فرساً، كذلك المولى سبحانه ينمي الصدقة حتى تصير كجبل أحد، والمؤمن حقاً هو الذي يتصدق، بل إن من كمال الإيمان أن يخفي صدقته حتى على المتصدق عليه؛ لأنه ليس له غرض من المتصدق عليه، ولا ينتظر منه شيئاً، فلا يريد منه أن يرد عليه إحسانه؛ لأنه يتصدق ويعتقد أن المولى سبحانه هو الذي يتقبلها منه، إذاً: ليس له حاجة في العوض من الخلق، ومن هنا كان من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظله إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله) ، وأشرنا بأن الحديث ليس فيه قلب؛ لأن الذي يريد أن يخفي الصدقة حقاً يخرجها بشماله؛ لأن الناس ينظرون إلى يمنيه، لأنها أداة الحركة والأخذ والعطاء، والشمال ملغاة في هذا الباب، فبما أن الناس ينظرون إلى اليمين، ويتوقعون منها الحركة والعطاء، فهو يفرغها ويشغل الأخرى، إمعاناً في إخفاء الصدقة، لماذا؟ لأنه يؤمن بأنها عند الله.
إذاً: المتصدق أخرج شيئاً من ماله، والنفس شحيحة على المال: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ، وفي الحديث: (لا يتصدق عبد بدرهم واحد حتى يفك لحى سبعين بعيراً) ، انظر التشبيه! كأن الدرهم يعض عليه سبعون بعيراً، ويفك لحاها واحداً بعد واحد، يعني: يجاهد نفسه، المرة تلو الأخرى، كلما هم أن يتصدق، النفس تقول: لا، أنت في حاجة، أولادك في حاجة، لا تدري ما المستقبل، وهكذا تأتيه عوامل ونوازع لترد الدرهم، وهو يريد أن يدفعه، عوامل وعقبات شديدة حتى يجتازها فيخرج الدرهم من يده، ومن هنا كانت قيمة الصدقة معنوية بحسب العامل النفسي لا بميزان الكثرة والقلة؛ لأن الكثرة والقلة عند الله سواء، خزائنه ملأى؛ ولذا يقول صلى الله عليه وسلم: (درهم سبق مائة ألف درهم) كيف هذا؟! عجيب والله! هل يعني ذلك: أن هذا الدرهم من الذهب، وتلك الدراهم من الخشب، لا، الدراهم واحدة، قالوا: (وكيف -يا رسول الله- واحد يسبق مائة ألف؟) لأن النوع يتساوى، رجل ورجل يتساوى، أفريقي، أمريكي، آسيوي، المهم أنه رجل جاء من آدم وحواء، فلا تفاوت في الواحد بالنوع، فالدرهم هو الدرهم، والرجل هو الرجل، لكن رجل عنده درهمان، ورجل عنده مال كثير، فتصدق صاحب الدرهمين بدرهم، وصاحب المال الكثير جاء إلى عرض ماله فأخذ قطعة منه مائة ألف وتصدق بها، فكم بقي لهذا الشخص صاحب المال الكثير؟ إذا كان أخذ من الطرف مائة ألف، فهذا يعني أنه: بقي في ماله ملايين، فالجزء الذي تصدق به لعله بالنسبة المئوية واحد من عشرة في المائة، أي: واحد من ألف، لكن إذا جئنا إلى صاحب الدرهمين، فالنسبة (50%) ، أي: نصف المال، والذي بقي لصاحب مائة الألف آلاف مؤلفة، ولكن صاحب الدرهمين لم يبق له إلا درهماً واحداً، فأيهما أشد إيماناً ويقيناً بالله؟ وأيهما تكون صدقته أعظم عند الله؟ صاحب الدرهم الواحد، ولهذا يقول العلماء في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] يعني: بعد السبعمائة، لمن كان ينفق ويتصدق مع الحاجة، قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان:8] ، ونجد بعض المفسرين يرجع الضمير في (حبه) إلى لله، ولكن جمهور المفسرين أنه راجع للطعام؛ لأن علاقة المتصدق بالله جاءت صريحة: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} [الإنسان:9] إذاً: (على حبه) يكون عائداً على الطعام، وإذا أرجعنا الضمير في على (حبه) إلى الله، فتبقى (نطعمكم لوجه الله) ليس لها محل.
إذاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان:8] أي: على حب الطعام، وحاجتهم إليه، وهذا هو الوصف الذي سجله الله للأنصار والمهاجرين رضي الله تعالى عنهم، وتأملوا هذا التقسيم وهذا الوصف في ذاك المجتمع: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر:8] ما خرجوا فراراً، ولا خرجوا من قلة، إنما خرجوا من ديارهم وأموالهم، كما قال الله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر:8] ، سماهم (الصادقون) ؛ لأنهم تركوا المال، والعيال، والديار، كما في قصة صهيب الرومي رضي الله عنه، ومعلوم أن صهيباً جاء من الروم إلى مكة ولا مال له، فصنع واتجر وأصبح ذا مال، فخرج مهاجراً، فأدركه أهل مكة، فقالوا: يا صهيب! جئتنا لا مال لك، وأصبحت ذا مال، أتريد أن تخرج بنفسك وبمالك عنا؟ لا يكون ذلك أبداً، قال: عجيب! همكم المال، يا معشر قريش! والله! إنكم تعلمون أني لأرمي ولا يخطئ لي سهم أبداً، وإن كنانتي ملأى، فهل إذا دللتكم على مالي ذهبتم وأخذتموه وتركتموني في حال سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: قد دفنته في المكان الفلاني، فاذهبوا فخذوه، قالوا: إنك عندنا لصادق، فلما وصل المدينة بشره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ربح البيع أبا يحيى!) لأنه اشترى نفسه من قريش بماله، وهاجر في سبيل الله، ما خرج عن فقر ولا عن حاجة، بل ترك المال، وفادى نفسه، وجاء مهاجراً.
وهؤلاء لأي شيء هاجروا؟ هاجروا يبتغون فضلاً من الله ورضواناً.
ما هو المقابل؟ قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] .