نأتي إلى النص الكريم في الفرق بين زكاة الفرض وصدقة التطوع: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة:271] ، تبدوها أي: تظهروها، {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] .
قال العلماء: (تبدون) الفريضة ليتأسى بكم الآخرون؛ لأنها شعار وحق لله، كما ينادى للصلاة على المآذن، ويسعى الناس إلى المساجد، فكذلك الزكاة المفروضة، لكن صلاة قيام الليل في جنح الظلام والناس نيام نافلة، فكذلك الزكاة الفريضة تؤدى علانية، وأما صدقة التطوع فمثل قيام الليل في الصلاة، {وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ} [البقرة:271] .
إذاً: علمنا القرآن الكريم كيفية إعطاء الزكاة والصدقة التي نتصدق بها، ومن هنا فعلى المسلم أن يتحرى الطيب، وبقدر محبته لما يتصدق به يكون أجره، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير صدقة المرء أن يتصدق قوياً شحيحاً يخشى الفقر، ويرجو الغنى) ، لكن إذا كان في آخر حياته، وأحس ببرودة الموت، وقال: أعطوا فلاناً، وفلاناً، فنقول له: لماذا لم تتصدق من قبل؟! الآن وقد بخلت من قبل؟! وما أعظم النماذج في الإسلام، فهذا أبو طلحة رضي الله تعالى عنه لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله، إن بيرحاء أحب أموالي إليّ، فضعها حيث شئت في سبيل الله ... ) .
وكان صحابي يصلي في بستانه، فرأى طائراً قد أهاجه شخص، فأراد أن يخرج من بين الأغصان فلم يجد فرجة، فأتبعه بنظره، وأعجب ببستانه، ثم انتبه فإذا به شغل بماله عن ذكر ربه، فجاء إلى رسول الله حالاً وقال: (يا رسول الله! شغلت وفتنت في مالي بكذا وكذا، ولا أرى إلا أن أتصدق به في سبيل الله ... ) ، بستان من أحب الأشياء إليه، متشابك الأغصان، والطائر لم يجد فرجة ليخرج، وهو يأتي إلى رسول الله ليتصدق به! فهم كما وصفهم الله سبحانه: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ} [النور:36-37] .
وهذا نبي الله سليمان لما استعرض الخيل، قال الله عنه: {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32-33] أي: تصدق بها في سبيل الله، لا كما يقول الآخرون: يمسحها بالمنديل ويلطفها، بل تصدق بها في سبيل الله؛ لأنها شغلته عن الصلاة حتى توارت بالحجاب.
إذاً: أجر الصدقة بقدر ما تحبها، وكيفية التصدق بمثل ما تحب أن يعاملوك به، فهل ترضى أن يأتي إنسان ويمتن عليك أمام الناس؟ لا والله! والحر يجوع ويربط على بطنه الحجر، ولا يتحمل منةً لمخلوق.
والقصد بالصدقة وجه الله، فالناس لا يعوضون أحداً، وإن أثنوا ومدحوا فكله ذاهب، ولكن إن قصدت وجه الله فهذا هو الباقي: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة:5] .
ولو أننا تأملنا هذه الفقرة من هذا الحديث (والصدقة برهان) ، ونظرنا إلى المجتمع الإسلامي في الصدر الأول، لرأينا الدرس والمنهج، فالأغنياء يجودون بمالهم، ويؤثرون على أنفسهم، والفقراء يتعففون.
فكيف كان ذاك المجتمع؟! كان مجتمعاً مثالياً؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في هذا الباب: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، ويأتي الرجل يطلب الصدقة، فيقول: (أراك قوياً وهي لا تحل لقوي ذي مرة، فيقول: يا رسول الله! ليس عندي شيء، وأنا وعجوز في البيت، فقال: ولا شيء؟ قال: حلس نفترش نصفه، ونلتحف بنصفه، وقعب نأكل ونشرب فيه) ، -هذا هو أثاث البيت، ما هي غرفة نوم، وغرفة مطبخ، وأواني، ولوازم، وو لا،- قال: (علي بهما، من يشتري؟! فقال شخص: بدرهم، فقال: من يزيد؟! فقال آخر: بدرهمين، فقال: خذ الدرهمين، واذهب واشتر بدرهم طعاماً لأهلك، وبدرهم فأساً وأتني به، فأخذ صلى الله عليه وسلم عوداً ووضعه فيه، وقال: اذهب فاحتطب وبع واكتسب، ولا أرينك خمسة عشر يوماً) ، وعفا عنه في حضور الجماعة؛ لأن هذا تشغيل لليد العاطلة، والقضاء على البطالة في كلمة، فيذهب الرجل، ويأتي وينمي التنمية الاقتصادية، فالحطب الضائع في الخلا يصبح طاقة تعمل في البلد، عجوز تطبخ به، ورجل يحتطب، وأتى الرجل بعد المدة لابساً ثياباً جديدة، وجيبه مليء بالدراهم والدنانير يسمع صوتها، ويتبسم صلى الله عليه وسلم ويقول: (نعم هكذا، لأن يأخذ أحدكم فأساً وحبلاً فيحتطب فيبيع فيكتسب فيستغني، خير من أن يتكفف الناس أعطوه أو منعوه، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر) .
وهكذا الإسلام يعمل على رفع معنوية الإنسان، ويدفع العاطل ليعمل، ويجعل المجتمع بقسميه الغني والفقير يتساويان في المعنوية وحفظ النفس.