هذا الحديث الجليل الذي يقول فيه بعض العلماء: لو قيل: إنه نصف الدين أو الدين كله، لكان حقاً؛ لأنه يربط العبد بربه بدون واسطة.
ثم قال بعد ذلك: (واعلم أن النصر مع الصبر) ، يعلم الجميع أن الصبر هو أغلى خصلة يمنحها الله للعبد، ويقولون في الإحصائيات: الصبر ذكر في القرآن حوالي سبعين مرة، وجاء في السنة: (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) ، وفي الحديث: (الصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء) ، يقول علماء المنطق: نور مع نور آخر النسبة بينهما التشكيك، كما لو أشعلت عود كبريت في صحراء، وجئت بلمبة ألف شمعة، فهذا نور، وهذا نور، ولكن إذا نظرت وجدت أحدهما ضعيفاً، والآخر قوياً، فالنسبة بينهما التشكيك.
قال: (الصلاة نور) وقال: (الصبر ضياء) ، الله سبحانه وتعالى لما ذكر الشمس والقمر قال: {جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5] ، فأيهما أقوى؟ الشمس أقوى، فالحديث جعل الصبر ضياء، وجعل الصلاة نوراً، والصلاة هي عماد الدين، فكيف يكون الصبر أكثر إشعاعاً، وأكثر إضاءة، وأكثر فعالية في قلب المؤمن؟! لأنك لو تأملت في التشريع كله من الأوامر والنواهي، لوجدت قوام ذلك كله على الصبر، قال الله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] ، فقدم الصبر {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] ، لولا الصبر لما توضأ أحد بالماء البارد في الشتاء وخرج من بيته إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على الحر في القائلة وخرج في الظهيرة إلى المسجد، ولولا الصبر لما صبر أحد على المال والنفس شحيحة، فأخرج جزءًا من المال وهو صنو النفس، ولولا الصبر لما حمل أحد سيفه في يد، والروح في اليد الأخرى، وقاتل الأعداء، ولولا الصبر لما صبر أحد على فعل طاعة، ولا صبر على ترك معصية، (فالصبر من الإيمان كالرأس من الجسد) كما في الحديث، وإذا فصلنا الرأس عن الجسد صار جثة نواريها.
إذاً: النصر مع الصبر، وقيل لبعض شيوخ العرب: بما غلبتم كذا؟ قال: غلبناهم بالصبر، يقاتلوننا ونقاتلهم، ونفوز عليهم ونتميز بالصبر، وقالوا: (الشجاعة صبر ساعة) ، قال الله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:66] ، الصبر معه النصر، ويقول ابن القيم في بعض ما كتبه على هذا الحديث: الصبر على قتال العدو يجلب النصر، والصبر على النفس، يكون بالصبر على هواها، والصبر على مطالبها، والعوام عندهم مثل عجيب يقولون فيه: صبري على نفسي، ولا صبر الناس عليّ، فإذا كنت في فاقة تصبر على نفسك خير من أن تقول: يا فلان! اعمل معروفاً، وأقرضني واصبر عليّ؟ لا، ما دمت تستطيع الصبر فاصبر.