وقد ذكرنا قصة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه حينما أراد الهجرة، وما كان من أمر المشركين حينما تآمروا على قتله، وجمعوا عشرة رجال بسيوفهم على باب بيته، فجاءه جبريل عليه السلام -لأن الله يرعاه- فقال: لا تبت في فراشك الليلة، فنام علي رضي الله تعالى عنه في برده، وخرج صلى الله عليه وسلم أمامهم وسيوفهم في أيديهم، ولكن الله ألقى عليهم النعاس، وقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] ، فيخرج من بين أيديهم فلا يرونه، ويحجبه الله عنهم، ويمعن في إذلالهم فيأخذ التراب من تحت أقدامهم ويذروه على رءوسهم، ثم يتوجه إلى الغار، فيأتون إلى فم الغار، وهم يريدونه حياً أو ميتاً، وجعلوا مائة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، فيقفون على فم الغار، ويقول الصديق: (يا رسول الله! والله! لو نظر أحدهم إلى أسفل نعليه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!) ، وقال الله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] ، وهي مثل كلمة موسى عليه السلام: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ولكن -وهنا لطيفة ننبه عليها- موسى عليه السلام قال: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي) ، ومحمد صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فـ (نا) هذه للجمع، ومن هم الجمع الذين في الغار؟ أبو بكر مع رسول الله، فهذا يدل على فضل أبي بكر حينما شركه القرآن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَعَنَا) ، فموسى كان معه أمة كاملة من بني إسرائيل، وكان معه أخوه ووزيره هارون، فقال القوم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} ، وأين يقين القوم من يقين موسى؟ وكان أبو بكر رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، يقيه بنفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بالك يا أبا بكر! تارة تمشي أمامي، وتارة تمشي من ورائي؟!) ، وذلك لما خرجا من البيت في طريقهما إلى الغار، فقال: (يا رسول الله! أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون من ورائك، فقال: أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك أنت؟ فقال: نعم، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) ، فـ أبو بكر كان يهتم بالرسالة، فكان جديراً بأن يشارك مع رسول الله في قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) .
وخرج صلى الله عليه وسلم من الغار ومشى في الطريق، وأدركهم سراقة في الصحراء، وهم مكشوفون للعيان، فماذا كان من أمره؟ ساخت قوائم فرسه تسيخ، وسقط عنها عدة مرات، وإذا به يطلب الأمان لنفسه، ويكتب له أبو بكر بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة! إذا أنت لبست سواري كسرى) ، أي: أنت جئت تطاردنا بعد أن رأيتنا خارجين من مكة، فأخبرني حينما ينصر الله دينه، ويعلي كلمته، وينتشر الإسلام، وتقطع رءوس أولئك الظلمة، (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، وكسرى كان اسمه يرعب العرب، وكانوا يخشونه أشد ما يكون، فـ سراقة يلبس سواري كسرى، وكسرى يقضى عليه، يقول بعض العلماء: كان يقينه صلى الله عليه وسلم بربه من أعظم اليقين، وهو شخص خارج في الصحراء على تلك الحالة، واثق بوعد ربه، حتى بلغ به اليقين أن يعد سراقة بسواري كسرى، وقد حقق الله ذلك، ففي خلافة عمر رضي الله تعالى عنه فتحت المدائن، وجيء بلباس كسرى، فنظروا أي الرجال أطول ليروا عليه حلة كسرى؟ فنظروا في جميع الحاضرين فلم يجدوا أطول من سراقة، فجاء سراقة ولبس الحلة والسوارين، فقال له عمر: انزعها؟ فقال: لا انزع هذا اللباس! قال: لماذا؟ قال: أعطانيها رسول الله عليه الصلاة والسلام حينما خرج مهاجراً ولحقت به، فقال لي: (كيف بك إذا أنت لبست سواري كسرى؟!) ، فضحك عمر وقال: هل قال لك: امتلكت، أو قال: (لبست) ؟ قال: (لبست) ، قال: ها أنت لبستها، فانزعها، وهذا من فقه عمر.