ينبغي إشعار المسلم بالأخوة مع المسلمين، ولو أراد إنسان أن يوفيها حقها، فعليه أن يرجع إلى أصل دعوة الإسلام وأولها، والهجرة هي أعظم حدث في الإسلام بعد النبوة، فقد هيأت المجال للإسلام أن ينطلق وينتشر، بعد أن كان محدوداً في مكة، ومحصوراً فيها، ومحاطاً من جميع الجهات، ولا يسمح له بالتحرك، فهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وعند خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته إلى الغار كان الصديق تارة يمشي أمامه، وتارة يمشي وراءه، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: (يا أبا بكر! ما بالك تارة تمشي أمامي وتارة ورائي؟! أتود لو كان شيئاً أن يكون فيك يا أبا بكر؟! قال: نعم، إن أهلك أهلك أنا وحدي، أما أنت -يا رسول الله- فإن معك الرسالة) ، فمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة معناه مجيء رسالة الإسلام، وليس ذاته صلى الله عليه وسلم فقط، بل ما يحمله من رسالة ربه إلى خلقه، وكان في المدينة الذين بايعوا عند جمرة العقبة من الأنصار، والذين خرجوا قبل رسول الله مهاجرين، مثل مصعب بن عمير الذي كان يعلم الناس الإسلام، فكان فيها بوادر الإسلام، وبجانب هذه القلة كان هناك عباد أصنام، وكان عمرو بن الجموح له صنم في بيته، وكان ولده ممن حضر بيعة العقبة شاباً يافعاً، فلم يستمع لولده، وكان من سادة قومه، وكان كلما أصبح الصباح يأتي إلى صنمه ويطيبه ويمسحه ويؤدي له حقوقه في زعمه! فجاء الولد ونكس الصنم في الليل، فجاء الأب ووجد الصنم منكساً، فعدله، ثم جاء الولد ووضع عليه بعض القاذورات، فأخذه الأب وغسله وطيبه وعدله، ثم ربط الولد صنم أبيه مع كلب ميت في حفرة خارج البيت، وألقاهما معاً، وأصبح الأب يبحث عن معبوده فلم يجده، فأخذ يبحث عنه حتى وجده مع الكلب في حفرة، فلما وجده تعجب من ذلك! وأبعد عنه الكلب، وطيبه ووضعه في محله، وجاء بالسيف ووضعه بجواره، وقال: انتقم لنفسك، فإذا مرة أخرى يأخذه الولد ويجعله بتلك الصورة، فتنبه الأب وقال: عجباً! والله! لو كنت إلهاً حقاً لما كنت مع كلب في قرن، أف لك من إله، وتركه في مكانه وأسلم.
إذاً: كان في المدينة حينئذٍ أقلية مسلمة، ومشركون يعبدون أصناماً، ومنافقون أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، ويهود يعادون الدعوة بصراحة.
إذاً: المجتمع المدني كان مؤلفاً من عدة طوائف، أما مجتمع مكة فكان طائفتين فقط، إسلام وشرك، والكفار صرحاء، ولم يكن نفاق في مكة أبداً، إما مسلم واضح وإمام كافر ظاهر، لكن المجتمع في المدينة كان على أربعة أقسام، فكيف للإسلام أن ينتشر وأن يمضي في هذا المجتمع الخليط؟ ومع أن هذه بلدة صغيرة، وفيها هذه الطوائف، إلا إن الإسلام وقضى على تلك المظاهر كلها، وانطلق خارج المدينة، ولو وقف الساسة ورجال الاجتماع لعجزوا عن تعليل هذا، لكن ذلك كان بوسيلة الأخوة بين المسلمين، فأول ما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وكتب الصحيفة العالمية المشهورة بينه وبين اليهود، وبين المشركين، وكان منها: ما كان من أمر في المدينة فمرجعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي أول الإسلام كانوا يتوارثون بالإخوة، فإذا مات رجل من الأنصار وله أخٌ في الله من المهاجرين ورثه كما يرث الأخ أخاه والولد أباه، حتى نزلت آية المواريث: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال:75] .