مظاهر الأخوة في عصر النبوة يعجز إنسان أن يصورها، فمن تلك المظاهر: عندما رجع صلى الله عليه وسلم من بني المصطلق تلاحى غلامان: غلام من الأنصار، وغلام من المهاجرين، وضرب غلام المهاجرين غلام الأنصار، فبلغ الأمر إلى عبد الله بن سلول رئيس المنافقين، فقال: قد قلت لكم من قبل: ما نحن وهم إلا كمثل القائل: سمّن كلبك يأكلك، آويناهم في المدينة، وأطعمناهم، والآن يضربونا، {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون:8] ، فبلغت مقالته رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكاد المهاجرون والأنصار أن يفتتنوا، فأمرهم بالمسير وقت الظهيرة ليشغلهم، وجاء الوحي وبين مقالة ابن أُبي، فقال تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
ويقول علماء الأصول وعلماء البلاغة: إن ابن أُبي حكم حكماً صحيحاً، فالأعز يخرج الأذل، لكن من هو الأعز ومن هو الأذل؟ هذه هي نقطة الخلاف، فالحكم صحيح، ولكن من هو الأعز، ومن هو الأذل؟ ابن أُبي يزعم بأنه العزيز في بلده، والقرآن قد رد على ابن أُبي حكمه، وبين أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولكنك لا تفقه يا ابن أُبي!! فلما وصل الناس إلى المدينة، ظهرت ثمرة الأخوة في الله، جاء عبد الله بن عبد الله بن أُبي - وهو صحابي جليل، وكان من أبر الناس بأبيه رئيس المنافقين- فأمسك بزمام راحلة أبيه عند باب المدينة، واستلّ سيفه وقال: والله! لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله، وتعلم أنك أنت الأذل، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين! فما أعجب هذا الارتباط بين الولد وبين المسلمين، وفصل العرى التي بينه وبين أبيه، فرابطة النسب ضاعت؛ لأنها رابطة ماء وطين، أو رابطة زوجية، أما رابطته برسول الله فهي من الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران:103] ، وأي نعمة؟ إنها نعمة الإسلام: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] ، والذي لم يدخل في الإسلام لا يزال واقفاً على شفا حفرة من النار.
وهكذا وقف الأب أمام الولد ولم يستطع أن يدخل المدينة! من الذي منعه؟ هل هو الرسول؟ لا، هل هو أبو بكر أو عمر؟ لا.
بل منعه ولده! ثم بلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه: دعه يدخل، فدخل المدينة ذليلاً حقيراً! وأمثال هذه المواقف كثير، ويهمنا أن الأخوة الإسلامية ربطت بين أفراد الأمة الإسلامية، وهي أقوى من النسب والقرابة والرحم، ويظهر أثرها أكثر من هذا في الغزوات، فمثلاً: بعد أن انتهت معركة القادسية، خرج رجل يطلب ابن عم له في القتلى، وقال: لعلي أجده في رمق يحتاج إلى ماء، وحمل معه قدحاً من الماء، ثم وجده في النزع، فقال: ألك حاجة في الماء؟ قال: نعم، فقدّم إليه الماء في القدح، فلما أخذ القدح وأهوى به إلى فيه إذا به يسمع جريحاً يئن، فرفع الماء وقال: اذهب به إليه لعله أحوج إليه مني، فذهب به إليه، وعندما أراد أن يرفع القدح إلى فيه سمع أنيناً ثالثاً فأرسله إليه، فذهب إلى الثالث فوجده قد مات، فرجع إلى الثاني فوجده قد مات، فرجع إلى ابن عمه فوجده قد مات، فمات الثلاثة وكل يؤثر أخاه على نفسه، والماء يبقى في القدح!! روى البخاري رحمه الله عن ابن عمر قال: (كنا في زمن لا يعرف أحد منا فضل درهم على أخيه، ونحن في زمان الدرهم عند الرجل أعز من أخيه وأبيه!) ، فإذا كان ابن عمر يقول هذا في وقته، وهو صحابي جليل، فكيف بنا اليوم؟! تجد أن الفلس عند الرجل أعز من الدنيا كلها!