ومن الغد تأتي قريش بقلوب حاقدة وسيوف مصلطة يطلبون محمداً، الآثار تأتي بهم إلى فم الغار، لكن يكذب أعينهم عنكبوت قد نسجت خيوطها، ونبت قد تدلى، وحمامة قد باضت، فكيف سيدخل من أراد الدخول دون تمزيق هذا النسيج؟ فكذبوا أنفسهم ورجعوا.
نقول: نعم.
لقد ردهم الله ورد كيدهم، لا بالدروع والسيوف والجنود، ولكن أمام نسج العنكبوت، كأنه يقول لهم: قوتكم لا تساوي هذا النسج، لأن الباطل لا قوة له.
ثم بعد ذلك يمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقه، ويضع لنا معلماً عظيماً في طريقه حينما يأتي أم معبد وهي امرأة كانت في الطريق عند خيمتها، عندها عنز عجفاء لا تستطيع أن تلحق بالغنم في المرعى، فيقول لها الصديق رضي الله تعالى عنه، هل عندكم من قِرى؟ قالت: إن أردت القرى فاذهب إلى شيخ الحي، قال: وما هذه العنز قالت: إنها عجفاء.
فقال صلى الله عليه وسلم: عليّ بها.
وفي رواية: ذهب إلى الظل ثم جاءت المرأة بولدها وقالت: اذهب بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فليذحانها وليطعمانا وليطعما، فلما جاء بالعنز وبالمدية قال: رد المدية وأتني بقدح، قال: إنها عجفاء لا حليب فيها، فرد المدية وجاء بالقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم على ضرعها ودعا الله، وحلب فشرب وشرب الصديق، وشرب دليلهم ابن أريقط وبقي الإناء مليئاً بالحليب، فذهب به إلى أم معبد فقالت: والله إن كان هذا ساحراً لهو أكبر السحرة، ولئن كان هذا هو الصابئ في مكة لهو صادق حقاً.
وفي امتناع الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذبح الشاة دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يأبى أن يكون في هجرته وفي طريقه إراقة قطرة دم ولو كانت لشاة، ويختار على ذلك أن يدعو الله وأن يدر له الضرع، فيحلب ويشرب وتبقى العنز كما هي، إن في ذلك إشعاراً بأن الهجرة كانت هجرة خير وبر لا هجرة دم ولا انتقام.
ووصل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأول من يعلن عن قدومه رجل من اليهود، ينادي: يا بني قَيْلة! هذا جدكم الذي تنتظرون! وهنا وقفة: فدليل الرحلة رجل مشرك، وفي الإعلام عن وصوله رجل يهودي، يا سبحان الله، دعوة الإسلام تنتقل إلى المدينة بقيادة رجل مشرك، ورحلة الإسراء والمعراج على براق جبريل عليه السلام، فتلك دعوة تكريم لن تكون لأحد بعده، ولن تتكرر لأحد، وليست للتشريع ولكن للتكريم، أما رحلة الهجرة فكانت للتشريع والتعليم، ولبيان المناهج الصحيحة لدعاة الإسلام.
فلكأن الله يشعر المسلمين، بأنه سخر المشركين لخدمة الإسلام، وسخر اليهود لخدمة الإسلام أيضاً، إذاً لا مانع أن يستخدم المسلمون المشركين في أمور دنياهم، ولا علاقة لدينهم بذلك.
كانت الهجرة المباركة ووصل صلى الله عليه وسلم إلى قباء، وبنى مسجد قباء، ثم نزل إلى المدينة وبنى المسجد النبوي وتمت الهجرة النبوية وكانت المدينة منطلق المسلمين وعاصمتهم الأولى.