وأخذ النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر يعدان للهجرة، فـ أبو بكر أخذ راحلتين وعلفهما من أجل الطريق الطويل، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الظهيرة، في وقت لم يكن يأتينا فيه، فقال لأبي بكر: أخرج من عندك! فقال أبو بكر: ليس إلا فلانة وفلانة وأمنه من أن يفشو سره، قال: أذن الله لي في الهجرة قال: الصحبة يا رسول الله.
قال: نعم.
وعرض على رسول الله الراحلة والزاد فقال بثمنها.
ثم رتب رسول الله صلى الله عليه وسلم والصديق الخطة، على أساس أن يخرج صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ويأتي عبد الله بن أبي بكر بالأخبار، وتأتي أخته بالطعام، ويأتي راعي أبي بكر بالغنم بعدهما ليعفي الأثر ويسقيهما اللبن.
واجتمع كبار كفار قريش وتآمروا في دار الندوة على حبس النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله أو نفيه، وجاءهم الشيخ النجدي فصوب رأي أبي جهل لعنه الله، ولكن الله سبحانه الذي اختاره صلى الله عليه وسلم واصطفاه والذي بعثه وأرسله كان يتولاه ويرعاه، فعصمه من السفاح قبل ولادته كما جاء في آثاره، وعصمه من كل سوء في طفولته، وشق صدره ليخرج منه خظ الشيطان، وهكذا تولته عناية الله.
ففي تلك الليلة يأتي جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: لا تبت في فراشك الليلة، ويأتي أول فدائي كما يقولون: بل أول مسلم من الشباب، علي بن أبي طالب، ويقول له صلى الله عليه وسلم: (نم في فراشي وتسجى ببردي، فلن يصلوا إليك بأذى) ، وهذا ضمان من الصادق المصدوق أنهم لن يصلوا إليه بأذى.
ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم أنوف أولئك الفتية، وهم واقفون بباب الدار، ولم يكفه أن يمر عليهم بل يأخذ التراب ويضعه على رءوسهم ويقرأ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس:9] فلم يبصره واحد منهم، ثم يذهب إلى الغار، وهنا تتجلى عظمة أبي بكر وتظهر محبته رضي الله تعالى عنه، فتارة يمشي أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارة يمشي وراءه، فإذا رسول الله يقول: (يا أبا بكر ما لي أراك تارة أمامي وتارة من ورائي؟ فيقول: يا رسول الله! أتذكر الرصد فأكون أمامك، وأتذكر الطلب فأكون وراءك، فيقول صلى الله عليه وسلم: أردت يا أبا بكر لو كان شيء يكون فيك أنت؟ يقول: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أهلك أنا أهلك وحدي، أما أنت فمعك الرسالة) .
وقد رسمت الخطة للهجرة، وهذا يدل على أنه يجب على كل داع أن يسلك، إعداد العدة والتحفظ والاحتياط، وكل ما يكون في إمكانية البشر.
بل قبل سنة أو عدة أشهر من الهجرة كانت رحلة فريدة، وهي رحلة الإسراء والمعراج، وكانت رحلة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم رداً على المشركين، وعلى ثقيف، وعلى ما لقي في الطائف، وعلى ما لقي في مكة عند عودته، حيث منع من دخول بلده مكة، فلم يدخل إلا في جوار رجل مشرك، مع أن جبريل قال له: يا محمد! هذا ملك الجبال؛ إن شئت أن يطبق عليهم الأخشبين، قال: لا.
إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله.
ودخل في حماية رجل مشرك، لماذا لم يدخل في جوار حمزة وعمر وأبي بكر؟ لأنه يسن ويشرع في سياسة الدعوة التي يجب على كل داعية أن يسلكها ويدرسها ذلك.
فأرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مطعم بن جبير ودخل في جواره وهو على دين قومه، وخرج مطعم وكان له أربعة من الأبناء الشباب، وقف كل ولد من أولاده عند ركن من أركان البيت متقلداً سيفه لابساً سلاحه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت، وجاء أبو سفيان وكشف عن الحقيقة، فقال له: أتابع أنت أم مجير، قال: إني مجير، قال: أجرنا من أجرت، وانتهت القضية.
فلو كان هذا المجير مسلماً وتابعاً لمحمد، لوقعت حرب أهلية حرب داخلية، تقضي على جميع المسلمين، وليسوا آنذاك بقوة تستطيع أن تقاوم تلك القوة.
وكما أشرت أن الداعية حسن البنا رحمه الله كان يريد أن يفتح مركزاً في قرية، وكان عمدة القرية ضد هذا المركز، فسبق أحد أبنائه إلى القطار قبل البلدة بمراحل، وركب معه القطار وأخبره، قال له: أرى أن ترجع، أرى ألا تذهب إلى المركز لأن عمدة القرية جمع رجاله وأعوانه، ويريد أن يضرب من يجتمع في هذا المركز، قال: هل علم بك أحد؟ قال: لم يعلم بمجيئي أحد، قال: إذاً فاسكت، فلما وصل القطار إلى محطة المركز، كان الناس ينزلون على الرصيف المرتفع وهو نزل من الخلف، ولم يشعر به أحد، وأخذ صاحبه بيده وترك المستقبلين المحتشدين عند القطار، وما علموا إلا بالشيخ حسن قد وصل المركز لكن لم يذهب إلى مركزه ولا إلى أحد من أبنائه ولا إلى أحد من أتباعه، بل ذهب إلى بيت العمدة بنفسه، سلام عليكم نحن ضيوفكم، فقام العمدة بأريحية أهل الريف بحق الضيافة، ثم بعد أن تناولوا القهوة أو الغداء قال: نحن جئنا لافتتاح المركز ولا يكون حفل الافتتاح إلا على شرف العمدة الذي هو أمير القرية.
فذهب العمدة مع حسن البنا بعد أن كان رجاله قد أعدوا لإحباط الافتتاح ولضرب الحاضرين فصاروا حراساً لهذا الحفل، ثم ما خرج من هناك حتى ولى العمدة رئاسة هذا المركز.
نرجع إلى موضوعنا: مشى الصديق رضي الله تعالى عنه مع رسول الله حتى وصلا إلى الغار وهناك قال أبو بكر: على رسلك يا رسول الله حتى استبرئ لك الغار، ويدخل رضي الله تعالى عنه الغار ليلاً، يفادي بنفسه، ودخل حتى استبرأ الغار، فقال: على بركة الله باسم الله يا رسول الله، فينزل صلى الله عليه وسلم ويجلس.