ونشأت هذه الأفكار أول ما نشأت وبقوة في الهند، ثم انتقلت إلى المسلمين في عقر دارهم، حتى الذي يقرأ تاريخ الطوائف الجديدة وبالأخص القاديانية: أنهم حرّجوا على المسلمين قتال المستعمر، وينادون بالسمع والطاعة، وألا قتال بعد ذلك، وفي بعض البلاد في أفريقيا يتركون دراسة باب الجهاد في الفقه ويقولون: لم يبق قتال لماذا؟ قالوا: ما بقي جهاد! ما شبهة هؤلاء؟ شبهة أولئك حدثت أولاً: غزو فكري إلى المسلمين فوجدت طائفة تقارب بين الفريقين وتسد الفجوة، والحق والباطل خطان متوازيات لا يلتقيات أبداً، ولبّسوا على الناس بآيات ظاهرها ما ذهبوا إليه لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال:61] ، وقوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] لا تعتدوا بأي شيء؟ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256] وقال: لا يكره أحد، والآن إلى عهد قريب بعض الكتب تدرس في بعض الجامعات في مقدمتها {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ، ولكن ما معنى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} ؟ معناها: نكف عنهم، إذا لم يقاتلون، ما معنى: (لا تَعْتَدُوا) ؟ ما معنى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ؟ وتركوا أول سورة براءة، وآخر ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة حينما أرسل أبا بكر رضي الله تعالى عنه يحج بالناس وجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأن فتح مكة كان في العام الثامن من الهجرة، وكان المشركون في عهود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من عادة المشركين في الجاهلية أن يطوفوا بالبيت عرايا رجالاً ونساءً، وما كان لرسول الله أن يشهد هذا المشهد، فأرسل علياً رضي الله تعالى عنه، وأدرك أبا بكر في الطريق، فقال له أبو بكر كما يروي القرطبي: أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، قال: ما مهمتك؟ قال: أبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة براءة، فلماذا لم يأمر الرسول أبا بكر أن يبلغها عنه؟ قالوا: كان من عادة العرب أنه لا يبلغ عن الشخص إلا من عصبته وذويه، وعلي رضي الله تعالى عنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبي بكر فقد كان ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، فذهب وقرأ على الناس في يوم الحج الأكبر {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ، ثم جعل لهم مهلة {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] ثم بين {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5] .