ومن هنا يأتي الناظر الآن في هذا الباب ويجد من يحتج ببعض نصوص القرآن على أن الجهاد إنما هو دفاع عن النفس، ويجد سلف الأمة وأئمة المذاهب الأربعة، وعلماء التفسير، قد أجابوا عن ذلك وبينوه الناس، فيما يلي: الوجه الأول: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] كلمة (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) إغراء على المقاتلة؛ لأنه لو لم يكن جهاداً في سبيل الله لكان قتالاً للمقاتلين (وَلا تَعْتَدُوا) ليس معناها: لا تعتدوا على الناس المسالمين، ولكن لا تعتدوا في قتالكم بقتل الصغير والمرأة والشيخ الكبير، هذا وجه.
الوجه الثاني: كانت تلك الآية وهي في البقرة سابقة لبراءة في النزول، والقتال في الإسلام أخذ طور التدرج، وقد جاء في السنة وفي السيرة: أن الأنصار رضي الله تعالى عنهم لما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوا بيعة العقبة وكانوا سبعين رجلاً قالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا أن نميل على أهل الموسم بأسيافنا، فقال صلى الله عليه وسلم: لا؛ إنا لم نؤمر بقتال بعد) تحمل وصبر ثلاث عشرة سنة في مكة لم يؤمر بقتال، وكلنا يعلم ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام من أذى المشركين ولم يؤذوا واحداً، لقد خرج صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام، فكيف كان موقفهم منه صلى الله عليه وسلم؟ سلطوا عليه السفهاء، ورموه بالحجارة، وأدموا قدميه، ويصبر، وينزل ملك الجبال مع جبريل يقول له جبريل عليه السلام: (هذا ملك الجبال إن أردت أن يطبق عليهم الأخشبين فعل، يقول: لا، إني لأصبر وأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يقول: لا إله إلا الله) .
ولذا جاء في آخر سورة النحل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:125-126] .
وقد سلّى سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:127-128] لا تكن في ضيق من مكرهم، واصبر وما صبرك إلا بالله وقد صبر، ولذلك لما جاء إلى مكة وأراد أن يدخل مكة منعوه، حتى دخل في جوار رجل مشرك، كل ذلك ويصبر ويحتسب، ولم يعاقب أحداً، ولم يأت في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاقب شخصاً واحداً في مكة قبل الهجرة، مع شدة إيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه، لذا أذن لأصحابه بالهجرة الأولى إلى الحبشة، ثم أذن لمن شاء أن يهاجر إلى المدينة، وأخيراً هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ونعلم كيف كانت ظروف الهجرة.
إذاً: (لم نؤمر بقتال بعد) ثم جاء إلى المدينة، وشُرعت الأحكام، وأُذن في القتال فهل كان دفاعاً عن النفس، أو كان لإعلاء كلمة الله (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) لم يقل: من قاتل ليرد الناس، أو ليحمي البلاد أو الأوطان أو غير ذلك، هنا كذلك: (أمرت أن أقاتل الناس) .
إذاً: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] في بادئ الأمر حينما كانوا في أوائل أمرهم وقلة عددهم كانوا مسالمين، ثم بعد ذلك لما قويت شوكة المسلمين، وأصبحوا أمة {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة:123] ثم كان بعد ذلك النهاية، وخاتمة المطاف أن تنزل سورة براءة ويرسل علياً بها رضي الله تعالى عنه لينبذ العهود إلى المشركين جميعاً، ويجعل لهم المهلة أربعة أشهر {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فإذا انسلخ الأشهر الحرم ماذا تكون النتيجة؟ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] قاتلوهم حيث كانوا.
إذاً: كانت النهاية الأمر بالقتال العام، وقاتلوهم حتى يكفوا عنكم! أو حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
وكذلك أيضاً: كيف يجيب العلماء على تلك الدعوة الجديدة الزائفة؟ قالوا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190] قالوا على أهل الكتاب؛ لأن الله قبل منهم الجزية، أما المشركون فإما الإسلام وإما السيف، قالوا: إنها كانت متقدمة فجاءت براءة ونسختها، يقول بعض العلماء في مبحث الناسخ والمنسوخ: كل آية فيها موادعة فقد نسختها آية السيف.