يروي لنا هذا الحديث بهذه الصيغة، قال: (حدثنا رسول الله) وعلماء الحديث في المصطلح بعضهم يقول: حدثنا، أخبرنا، أنبأنا كلها بمعنى واحد.
وبعضهم يقول: (حدثنا) بمعنى: قال وسمعنا حديثه، و (أنبأنا) قرئ عليه وهو يسمع، و (أخبرنا) مناولة أو إجازة، وهنا (حدثنا) ، أي: أحدث لنا كلاماً، وهو التحدث باللسان.
ثم نجد ابن مسعود في هذا الحديث بالذات يقدم له مقدمة لم تجر له في جميع أحاديثه، مع أن بعض العلماء يقول: روي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه هذا فوق الثمانمائة حديث.
يقول: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) رسول الله صادق ومصدوق قبل أن يقول ابن مسعود، وصادق ومصدوق في كل ما يحدث به، وهو صادق قبل البعثة وبعدها، وعلى خلق عظيم قبل البعثة وبعدها.
لقد جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم قبل البعثة أن قريشاً لما اختلفوا في وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وتنازعوا في أي قبيلة يكون لها شرف وضع الحجر الأسود في مكانه من الجدار في الكعبة، حتى كادوا أن يقتتلوا، حتى ألهمهم الله وقالوا: علام نقتتل؟! نحكّم أول رجل يخرج علينا من هذا الفج، فكان أول من خرج عليهم هو محمد بن عبد الله، فلما رأوه جميعاً قالوا: الأمين ارتضيناه! وكان ذلك بمثابة انتزاع اعتراف منهم بأنه الأمين.
وجاء في السير أن هرقل سأل يوماً: أي الأمم تختتن؟ لقد رأيت نجم نبي الختان قد ظهر.
فقالوا: العرب يختتنون.
قال: إذا جاء وفد من العرب فأحضروهم إليّ.
فلما جاء أبو سفيان ومن معه في تجارة إلى الشام أحضروهم إلى هرقل، فسألهم: هل ظهر عندكم نبي؟ قالوا: نعم.
قال: لقد كنت أتوقع أن يظهر هنا، ثم قال: إني سائل عن هذا الرجل فأي رجلٍ أقرب إليه نسباً فيكم؟ قالو: هذا أبو سفيان.
قال: إني سائله، فكونوا من وراء ظهره، إن صدق فصدقوه، وإن كذب فأخبروني.
فسأله عدة أسئلة، ومنها: أكان يكذب عليكم قبل هذه الدعوى، أم كان صادقاً في الحديث؟ قال: ما جربنا عليه كذباً قط.
ثم سأله: أكان يغدر في العهد؟ قال: لا.
ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها! فأراد أبو سفيان أن يدخل دخيلة، وأن يدلس في كلامه.
ثم قال: ولكنه أيها الملك أخبرنا بأنه قد جاء إلى مسجدكم هذا ورجع إلينا في ليلة واحدة -وأراد أبو سفيان بذلك أن يبين بأن هذه كذبة ليست معقولة، ولكن الله أراد أن يحقق المعجزة- فقام دهقانٌ وكان قائماً على رأس الملك وقال: نعم، لقد علمت بتلك الليلة.
فقال له الملك: وما علمك بها؟ قال: كنت لا أنام حتى أغلّق أبواب هذا المسجد، وفي ليلة استعصى علينا باب كذا من أبوابه، فجاء الخدم وأخبروني، فدعوت النجاجرة فجاءوا وقالوا: لقد سقط النجاف على الباب فلا نستطيع تحريكه، فدعه إلى الصباح، فتركناه إلى الصباح، فلما جئنا في الصباح وجدنا الباب على ما كان عليه سابقاً، أي: يفتح ويغلق على ما كان عليه، وارتفع النجاف عن الباب، فعلمت أنه حبس على نبي يأتي تلك الليلة.
إذاً هو صلى الله عليه وسلم في بادئ أمره صادق، فلماذا يقدم ابن مسعود لهذا الحديث من الثمانمائة الحديث بقوله: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق) ؟
صلى الله عليه وسلم إذا سمعت بأن صحابياً يقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخبرني خليلي) (أخبرني حبيبي) (أخبرني الصادق المصدوق) توقع شيئاً عظيماً مما يختص به الخليل أو مما يحتاج إلى التنبيه والتأكيد، وهذا الحديث من ضمنها؛ لأنه يخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاله لا يخفى على الناس، إذ ولد في مكة، واسترضع في الطائف، ورجع إلى مكة، ثم جاء إلى المدينة، وما دخل مختبراً، ولا معملاً، ولا جلس إلى طبيب، ولا شرّح امرأة، ولا سلّط أشعة على رحم، ولا علم شيئاً من ذلك مما يعلمه البشر، وإذا هو يخبر عن بَدْء خلق الإنسان من نطفة، ثم يكون علقة، ثم يكون مضعة إلى ما بعد ذلك من أطوار خلق الإنسان، فكان من حق ابن مسعود أن يقول: وهو الصادق المصدوق فيما سأخبركم بأنه حدثني به، فلا يتطرق الشك إلى أحدكم؛ لأنه لم يعلم شيئاً من ذلك من قبل، أو لأنها أمور خفية داخل الرحم، فهو يخبر بما جاءه علمه من فوق سبع سماوات يخبر عن المغيبات يخبر عن من لم يوجد متى سيوجد فيما يعلمه الله سبحانه وتعالى.
إذاً تقديم ابن مسعود لهذا الحديث بقوله: (وهو الصادق) أي: فيما يخبر، (المصدوق) فيما أخبر وأعلن فيه إشارة إلى أنه لم يخبر هذا الخبر من تلقاء نفسه، ولا يتوصل إليه إنسان عادي، إذاً لابد من أنه أخبر من جهة أخرى، وكان إخباره صدقاً، فهو صادق فيما يخبر، ومصدق فيما يتناوله الخبر، ومن الذي يعلمه بذلك؟ الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] .