جاء في بعض المواقف عن السلف في موقف الاجتهاد ما يصادف الحق؛ فيكون شدة الفرح عنده خير من الدنيا وما فيها؛ فقد جاء عن أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه: أنه خرج إلى الشام في عام عمواس، فلما وصل إلى تلك القرية جاءه أمراء الأجناد في الشام قبل أن يدخل الشام بمراحل وأخبروه أن الطاعون قد فشا هناك.
فقال لـ ابن عباس: اجمع لي مشيخة المهاجرين، فجاءوا.
فسألهم: ماذا ترون؛ أنمضي بالجيش أم نرجع من الطاعون؟ فاختلفوا عليه، فمنهم من قال: أردت الخروج في سبيل الله فلا ترجع، ومنهم من قال: معك شيوخ الصحابة ووجوه القوم فلا تقدم بهم على هذا الطاعون ليهلكهم، ونرى أن ترجع، قال: قوموا عني.
ثم قال: أدخل عليّ شيوخ الأنصار، فاختلفوا عليه كما اختلف شيوخ المهاجرين، ثم قال: ادع لي من هنا من مشيخة قريش، فجاءوا فما اختلف عليه واحد منهم، وقالوا: نرى أن ترجع ولا تقدم على هذا الوباء ومعك خيار أصحاب رسول الله وبقيتهم.
فأعلن: إني مصبح على ظهر -أي: راجع- ولما أصبح جاءه عبد الرحمن بن عوف ولم يكن حاضراً، فقال: يا أمير المؤمنين! عندي في ذلك علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وما ذاك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا كان الطاعون بأرضٍ فلا تدخلوا عليه، وإذا نزل بكم في أرضٍ فلا تخرجوا منها فراراً منه) ، فكبر عمر، فقال: الحمد لله الذي وفقني لما أراد رسول الله.
وكذلك عبد الله بن مسعود لما جاءه السؤال في المرأة التي عقد عليها زوجها، ولم يسم لها صداقاً، ومات قبل الدخول بها، فدفع السائل عنه، فذهب إلى غيره ومكث الرجل أربعين يوماً في الكوفة يطلب من يفتيه فلم يجد، ثم رجع إليه مرة أخرى، قال: لم أجد ولن أرجع حتى أسمع الفتوى، فقال: أقول فيها برأيي؛ فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، أرى أن لها صداق مثيلاتها -بنت عمها وبنت خالتها وأختها-، ولها الميراث، وعليها عدة الوفاة؛ لأنها مأخوذ عليها.
فلما سمعه رجل من الصحابة جالس قام وقال: أشهد بالله لقد حكمت فيها بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، ففرح بذلك فرحاً شديداً لموافقته الحق بما اجتهد فيه.
والاجتهاد في الأحكام من خصائص الإسلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بكتاب الله، ونصوص الكتاب آيات معدودة، وجاءت نصوص السنة النبوية وهي مهما كان مبلغها فأعدادها محصورة.
وكما يقول الأصوليون: النصوص محدودة، والأحداث -أي: طول الزمان- ليست محدودة، فلا يمكن أن تقف غير المحدودة عند المحدودة، فما يستجد من الأحداث التي لا تتناهى لا نتركها هملاً، ولا نفرغها عن حكم شرعي بل نرجع إلى القواعد العامة التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنطبق عليها القواعد العامة، وتندرج تحت هذا العموم، ويكون باجتهاد المجتهدين.
وأجمع العلماء على أن الاجتهاد من خصائص الإسلام، ومن ادعى قفل باب الاجتهاد فهو مخطئ.