أرشد النبي صلى الله عليه وسلم بأن علماء هذه الأمة، بل صدر الأمة جميعاً، تأهلوا ليكونوا قادة للعالم كله، وذلك في غزوة تبوك، فإنه لما خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وفي أيام من أيام سفره ذهب يتوضأ لصلاة الفجر، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يبعد إذا أراد الخلاء، فأبعد طويلاً وكان معه المغيرة بن شعبة، فتأخر عنهم وطال انتظارهم، فخافوا خروج الوقت بطلوع الشمس، فتشاوروا فيما بينهم: ماذا نفعل؟ ننتظر رسول الله فيخرج الوقت! أم نصلي الفرض الواجب علينا؟ فاتفقوا على أن يصلوا وقدموا رجلاً منهم، فلما صلى بهم إمامهم ركعة وقام للركعة الثانية كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر، فهم المغيرة أن ينبه إمامهم ليرجع ليقوم النبي مقامه؛ وهذا حق الإمام الراتب، لو تأخر وجاء وقد أقاموا رجلاً منهم، فهو بالخيار؛ إن شاء أخره وقام مقامه، وإن شاء صف مع الناس.
فـ المغيرة رضي الله تعالى عنه أراد أن ينبه إمامهم ليرجع إلى الصف ويتقدم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنهاه رسول الله، وصف هو والمغيرة في صفوف المسلمين، ولما سلم الإمام قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتم الركعة التي فاتته، ولما سلم عظم على المسلمين أنهم يصلون أمام رسول الله، فهون عليهم وقال: (ما قبض الله روح نبي حتى يصلي خلف رجل من أمته) .
هذا الإشعار ليس حدثاً تاريخياً فقط: (ما قبض الله روح نبي إلا بعد أن يصلي خلف رجل من أمته) ، فلقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة وهم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، لا يعرفون حقاً ولا ينكرون منكراً، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعلهم سادة وقادة؛ إذ مهمة الرسول في الأمة: أن ينبه ويرشد ويعلم، ولكأنه بهذا قد ربى جيلاً، وربى قادة، وأوجد مجتمعاً الواحد منهم أصبح صالحاً لقيادة أمة، وأن يأتم به رسوله معه؛ بأي شيء؟ باجتهادهم بعملهم وبتحصيلهم، والباب واسع كما في حديث لـ معاذ لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضياً إلى اليمن، ثم قال: (بم تقضي يا معاذ؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسول الله لما يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، وإن كان بعض الناس يطعن في هذا الحديث لسنده، فالجمهور جميعاً على ما في هذا الحديث من هذا المبدأ.
وأدلة الاجتهاد لا تحتاج إلى إيراد، إنما يهمنا أن العالم إذا سئل عما لا يعلم فليقل: لا أعلم، وليتوقف وليسأل من هو أعلم منه.
وقد جاء في الموطأ: أن ابن عباس اختلف معه رجل، هل يغسل المحرم رأسه أم لا؟ فقال: يا فلان! اذهب إلى أبي أيوب الأنصاري، وقل له: إن ابن عباس يسأل كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم؟ فذهب الرجل، قال: فوجدت أبا أيوب يغتسل بين قرنين -القرنان هما البنايتان- ودونه ثوب يستره، وعنده غلام يصب له الماء، فسلمت عليه وأخبرته بما أرسلني به ابن عباس، فأخذ الثوب وطأطأه حتى ظهر رأسه، وقال للغلام عنده: صب يا غلام، فأقبل بيده وأدبر، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه وهو محرم، فرجع إلى ابن عباس وصاحبه وأخبرهما بما كان.
ولما اختلف عثمان رضي الله تعالى عنه ورجلاً آخر في الرجل يجامع أهله ولم ينزل؛ هل يسقط عنه الغسل لحديث: (إنما الماء من الماء) ، أو يغتسل لحديث: (إذا جلس بين شعبها ثم جهدها فقد وجب الغسل) .
وجاء عمر رضي الله تعالى عنه وهم مختلفون في ذلك، فقال عمر لـ علي رضي الله تعالى عنه: ما تقول يا علي في هذه المسألة؟ وهنا يرد علي الجميع إلى منبع العلم فقال: ولم تسألني ولم تسأل غيري وبجوارك أمهات المؤمنين، أرسل إليهن فاسألهن عن ذلك، فإنهن أعلم بهذه القضية؛ فأرسل إليهن وذهب الرسول إلى أم سلمة أولاً فقالت: سلوا عائشة، فذهبوا وسألوا عائشة رضي الله تعالى عنها، فقالت: كنت أفعله أنا ورسول الله ونغتسل، وقالت لهم: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا جاوز الختان الختانَ فقد وجب الغسل) ، وقالت لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل؛ أنزل أو لم ينزل) ، فجاء الرسول إلى عمر وهو جالس، فقال: من فعل هذا وجب عليه الغسل وإلا أوجعته ضرباً وجعلته مثلة لغيره، فانتهى الخلاف.
إذاً: إذا سئل الإنسان عما لا يعلم فإنه يقف، ويكل العلم إلى الله، ثم عليه أن يجتهد، فإن أداه اجتهاده فيما لا نص فيه، أو لم يبلغه النص، ووقف على علم للسلف في ذلك فليقل بما علم، وقد أحسن من انتهى إلى ما قد سمع.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه.