قوله عليه الصلاة والسلام: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
هذا أيضاًً من باب الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل سلوك طريق توصل إلى العلم، والجزاء تسهيل طريق توصل إلى الجنة, وسلوك طريق العلم يكون بالسفر لتحصيله، ويكون أيضاً باتخاذ كل الوسائل التي توصل إليه وإن لم يكن هناك سفر، كأن يلازم مجالس العلم، ويقتني الكتب النافعة والكتب المفيدة لأهل السنة، ويعنى بقراءتها والمذاكرة فيها والتباحث فيها مع زملائه والرجوع فيها إلى مشايخه.
والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي, علم الكتاب والسنة، وكل ما يسهل الوصول إلى هذين الينبوعين الصافيين: كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وتيسير الطريق الموصل إلى الجنة لكونه سلك الطريق الموصلة إلى العلم بالسير إلى الله على بصيرة، وكونه يعبد الله على بصيرة وعلى هدى؛ وذلك إنما يكون بالعلم, والله عز وجل قال في كتابه العزيز: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:1 - 2] فكل إنسان في خسارة, ولا يستثنى من ذلك إلا من آمن إيماناً مبنياً على علم ثم عمل بالعلم، ثم حصل التواصي بالخير؛ وذلك بتعديته إلى الغير, ثم بعد ذلك التواصي بالصبر على ما يحصل في هذا السبيل من العناء والمشقة والنصب فإن ذلك يحتاج إلى صبر.
وقوله: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) هذه الجملة واضحة في بيان فضل العلم، وفضل طلب العلم الشرعي, وقد جاءت هذه الجملة أيضاً في حديث عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، وهو مشتمل على خمس جمل كلها تدل على فضل العلم, أول هذه الجمل هي هذه الجملة، وهي: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
والجملة الثانية: (وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع) ومعناها: أن الملائكة تحف به وتحيط به؛ وذلك بالرضا بما يحصل منه من العلم ونشر العلم وأخذ العلم.
والجملة الثالثة: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) العابد هو الذي يصلي ويصوم، والعالم هو الذي اشتغل بتحصيل العلم الشرعي والعمل به؛ وإنما كان العالم أفضل من العابد لأن علم العالم له ولغيره، ونفعه متعد، وأما العابد فعبادته له وحده, فصلاته له وحده، وصيامه له وحده، ولكن علمه له ولغيره, ولهذا كان العالم أفضل من العابد.
والجملة الرابعة: (وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء).
أي أن العوالم العلوية والسفلية كلها تستغفر للعالم، وهذا فضل عظيم يظفر به من وفقه الله عز وجل لأن يكون من أهل العلم بشرع الله، وعالماً بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والجملة الخامسة والأخيرة هي: (وإن العلماء ورثة الأنبياء, وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر).
وهذه الجملة اشتملت على شيء عظيم، ويكفي أهل العلم شرفاً أن يقال: إنهم ورثة رسول الله صلى الله عليه وسلم, يرثون عنه الحق والهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم، وهو ميراث النبوة؛ لأن الأنبياء لا يورثون المال، إذا خلفوا مالاً فإنه صدقة ولا يرثه أقرباؤهم، بخلاف غير الأنبياء فإنهم يرثهم أقرباؤهم على وفق ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحكام المواريث.
فالأنبياء إنما يورث عنهم العلم والحق والهدى، والرسول صلى الله عليه وسلم يورث عنه الكتاب والسنة، وهو خير ميراث وأفضل ميراث، وعلى هذا فالأنبياء يختلفون عن غيرهم من البشر من هذه الناحية؛ وذلك أن غيرهم من البشر إذا جمع مالاً ومات فإنه يكون لورثته، وأما الرسل فلو مات أحد منهم وعنده مال فإنه لا يكون لورثته، وإنما هو صدقة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة) يعني: لا يورث عنهم المال، ولكن يورث عنهم العلم النافع الذي هو بالنسبة لنبينا صلى الله عليه وسلم علم الكتاب والسنة.
قوله: (فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) أي: من هذا الميراث الذي هو ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الحق والهدى الذي جاء به، وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذه خمس جمل اشتمل عليها حديث أبي الدرداء، والجملة الأولى هي في هذا الحديث الذي معنا الذي في صحيح مسلم , وقد جاءت أحاديث أخرى تدل على فضل العلم، وتحث على تحصيله، منها حديث أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) أي: أن من علامة إرادة الله عز وجل الخير بعبده أن يفقهه في دين الله؛ لأنه إذا فقه في الدين فمعنى ذلك أنه سار إلى الله على بصيرة، ودعا غيره على بصيرة، فيكون هادياً مهدياً، يعرف الحق ويعمل به ويدعو إليه، ويكون علمه وعمله مبنياً على بصيرة وعلى هدى من الله سبحانه وتعالى.
وكذلك أيضاً جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) أخرجه البخاري رحمه الله، وهذا يدل على أن أهل تعلم القرآن وتعليمه هم خيار الناس.
وجاء في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)، وفي الحديث الذي مر بنا قريباً: (والقرآن حجة لك أو عليك) فهو بمعنى: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).