الجزاء من جنس العمل

الحديث السادس والثلاثون من الأحاديث الأربعين للإمام النووي رحمه الله: قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) رواه مسلم].

هذا الحديث عظيم مشتمل على جمل في كثير منها الجزاء من جنس العمل، فأوله قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة).

الكربة: هي الشدة والضيق، وهو الكرب العظيم الشديد، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا فالله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومعلوم أنه لا نسبة بين كرب الدنيا وكرب الآخرة، فكرب الدنيا سهلة يسيرة، وليست شيئاً بجانب شدة كرب الآخرة، فمن نفس عن مسلم -بمعنى أنه خفف عنه مصيبته وكربه أو أزاله عنه- فإن الله تعالى يجازيه بأن ينفس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وهذا فيه الجزاء من جنس العمل؛ لأن العمل تنفيس كربة في الدنيا، والجزاء تنفيس كربة يوم القيامة.

قوله: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) , المعسر: هو الذي حصل له الإعسار، وهو الضيق في المال؛ وذلك بأن يكون مثلاً عليه دين، فإن كان الدين لغيره فإنه يساعده بإعطائه ما يقضي به دينه، وإن كان الدين له فإنه يبرئه أو ينظره، كما قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:280] فبين أن أمام الإنسان طريقين: أحدهما الإبراء، والثاني الإنظار، والإبراء أفضل من الإنظار.

والإبراء إسقاط الدين عنه, وأما الإنظار فهو إمهاله إلى أن يوسر، وإلى أن يكون عنده القدرة على التسديد, والجزاء من جنس العمل، وهو أن ييسر الله له في الدنيا والآخرة, جزاء على تيسيره على ذلك المعسر, فالجزاء يحصل في الدنيا؛ وذلك بأن تيسر له أموره ويوسع له في الرزق، وفي الآخرة يحصل له التيسير من الله عز وجل.

ثم بعد ذلك قال: (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة).

يعني: ستر عيبه الذي علمه عنه، فإن الله تعالى يجازيه بالستر ستراً، فيستره في الدنيا والآخرة؛ وذلك أنه إذا حصل من إنسان خلل أو عيب أو حصل منه معصية فينظر: فإن كان هذا الذي حصل منه ليس معروفاً بالسوء، وإنما هي زلة وسقطة, فإنه في هذه الحالة يستر عليه, وإن كان معروفاً بالفسق والفجور وهو مستمر على ذلك أو مجاهر فالمصلحة في تأديبه وفي إيقاع العقوبة عليه التي يستحقها حتى يسلم الناس من شره.

وعلى هذا فالناس ينقسمون إلى قسمين: قسم ليس معروفاً بالفسوق، وليس معروفاً بالمعصية العظيمة.

وقسم معروف بها، وقد يكون مجاهراً، وقد يكون مستهتراً، وقد يكون عنده لا مبالاة بالوقوع في المعاصي.

فالأول يستر عليه، وقد يكون ذلك تأديباً له بحيث لا يعود، حيث يشكر الله تعالى حين سلمه من أن يفتضح, أما الثاني الذي هو معروف بالفجور وقد تكرر منه ذلك فإن إظهار ذلك وعقوبته العقوبة التي يستحقها من المصلحة له وللمسلمين.

قوله: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).

هذه جملة عامة، وهي من القواعد الكلية، ومن الكلمات الجامعة للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم التي لا تنحصر في شيء معين، بل هي شاملة وواسعة, فكل عون يحصل من المسلم لأخيه فإن الله عز وجل يجازيه بأن يكون في عونه، ومعنى ذلك: أنه كلما كان بهذه المثابة وبهذا الوصف فجزاؤه عند الله عز وجل أن يكون الله تعالى في عونه كما كان في عون أخيه, فالأمور التي تقدمت هي أمور خاصة منها ما يتعلق بالكرب, ومنها ما يتعلق بالستر، ومنها ما يتعلق بالتيسير، وأما هذه فأي عون يكون من العبد فإن الله تعالى يجازيه بالعون عوناً، فيعينه على أمور دينه ودنياه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015