وتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات أنكره بعض المفتونين في هذا الزمن، وقال: إن هذا تقسيم محدث ليس عليه دليل.
ومن المعلوم أن هذا التقسيم دل عليه الاستقراء من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد دل الاستقراء والتتبع على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة، وليس ذلك بغريب ولا بعجيب، بل الأمر في ذلك واضح، فنصوص الكتاب والسنة دلت على أن التوحيد ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وهو مثل تقسيم النحويين الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وليس هناك دليل يدل عليه من الكتاب والسنة، وإنما هو بالاستقراء، فقد استقرءوا كلام العرب وعرفوا أنّه كله لا يخرج عن الثلاثة الأقسام.
إذاً: فكما حصل هذا بالاستقراء فقد حصل هذا بالاستقراء أيضاً، ولا إشكال في ذلك، فالاعتراض على مثل هذا يحصل من الذين لم يوفقوا لاتباع الكتاب والسنة، ولم يوفقوا للسير على ما كان عليه سلف هذه الأمة، وإنما ابتلوا بكونهم من أهل الأهواء والبدع والانحراف، فصاروا ينكرون ما يذكره أهل السنة وما يثبته أهل السنة استنباطاً من الكتاب والسنة واستقراء منهما، والإنسان إذا تتبع نصوص الكتاب والسنة يجد أن هذه الأقسام موجودة، ويكفي مثالاً على ذلك أول سورة في المصحف وآخر سورة في المصحف، وهما الفاتحة والناس، فقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] يشمل أنواع التوحيد الثلاثة؛ لأن نسبة الحمد إلى الله هي فعل العبد، فكون العبد يحمد الله عز وجل ويضيف الحمد إليه ويقول: (الحمد لله) عبادة، وهذا هو توحيد الإلهية، وقوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فالربوبية في قوله: (رَبِّ الْعَالَمِينَ) فمعنى: (رب العالمين) خالقهم ومربيهم بالنعم، وموجدهم من العدم، ومن أسماء الله الرب، وهو وإن كان هنا مضافاً إلا أنه قد جاء مفرداً في القرآن، كما في قول الله عز وجل: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فهو من الأسماء والصفات، وكذلك لفظ الجلالة، وهو (الله) في قوله: (الحمد لله) فهو علم الأعلام، وأوضح الأسماء، وهو الذي تضاف إليه الأسماء، وتأتي الأسماء أوصافاً له، حيث يأتي في القرآن كثيراً ثم تأتي بعده الأسماء، كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر:23]، وقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:24]، فتأتي الأسماء أوصافاً له، فهو أوضح الأسماء وأبينها، وقد اشتملت عليه هذه الآية الكريمة.
وكل اسم من الأسماء يدل على صفة من الصفات، وكل اسم يشتق منه صفة، وليست كل صفة يشتق منها اسم، فالرحمن والرحيم يؤخذ منهما الرحمة، ومن العزيز العزة، ومن اللطيف اللطف، ومن القوي القوة، ومن الحكيم الحكمة، ومن الخبير الخبرة، ومن العليم العلم، وهكذا كل اسم يشتق منه صفة.
إذاً: فهذه الآية الكريمة اشتملت على توحيد الربوبية، والإلهية، والأسماء والصفات.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] اسمان من أسماء الله، يدلان على صفة الرحمة، وهذا من توحيد الأسماء والصفات.
وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، وفي قراءة {ملك يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فيه توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، فيوم الدين هو يوم القيامة، وهو يوم الجزاء والحساب، والله تعالى مالك الدنيا والآخرة، ومالك كل شيء، وإنما قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لأن ذلك اليوم هو اليوم الذي يخضع فيه الجميع لرب العالمين، بخلاف الدنيا، فإنه يوجد فيها من يتجبر ويتكبر، بل وجد من قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وأما الآخرة فما فيها إلا الذلة والخضوع لله سبحانه وتعالى.
قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيه توحيد الإلهية.
وقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فيه توحيد الإلهية؛ لأن (اهْدِنَا) دعاء، والدعاء من العبادة، كما قال ذلك رسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] هم أهل التوحيد، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وهم الذين فارقوا التوحيد.
فسورة الفاتحة مشتملة على أنواع التوحيد الثلاثة، ومثلها سورة الناس، فقوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] مثل قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] مشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة، فقوله: ((أَعُوذُ)) فيه توحيد الإلهية؛ لأن الاستعاذة من أفعال العباد، وهي لله عز وجل وحده، وقوله: ((رب الناس)) مثل (رب العالمين) فيه ذكر الربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: {مَلِكِ النَّاسِ} [الناس:2] فيه ربوبية، وفيه اسم وصفة، وقوله: {إِلَهِ النَّاسِ} [الناس:3] فيه ذكر الإلهية، وفيه اسم وصفة.
إذاً: فهذا التقسيم موجود في الكتاب والسنة، وقد عرف بالاستقراء والتتبع لنصوص الكتاب والسنة، وهذا هو الإيمان بالله عز وجل: أن يؤمن المرء بربوبيته وإلاهيته وأسمائه وصفاته.
والإيمان بالله عز وجل هو أس الأسس، وكل ما بعده تابع له، كما أن الشهادتين في أركان الإسلام هما أس هذه الأركان، وكل ما بعدهما تابع لهما، فكذلك الإيمان بالله كل ما وراءه تابع له، وكل ما يجب الإيمان به فهو تابع له، ومن لم يؤمن بالله فإنه لا يؤمن بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
إذاً: الإيمان بهذه الأمور تابع للإيمان به سبحانه، فهو الأساس، ولهذا أضيف كثير من هذه الأمور الباقية بالضمير العائد إليه، حيث قيل: وملائكته وكتبه ورسله.