ثم بين عليه الصلاة والسلام بعد ذلك عظم شأن القلب، وأنه بمثابة الملك للأعضاء، وأنها تابعة له، وأنه بصلاحه تصلح الأعضاء، وبفساده تفسد الأعضاء.
فقال عليه الصلاة والسلام: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، وقد ذكر هذه الجملة بعدما تقدم من ذكر وجوب ترك المحرمات وترك الأمور المشتبهة؛ لئلا يصل الإنسان إلى الأمر المحرم، وهذا فيه إشارة إلى أن سلامة المكاسب الطيبة والحرص على أن تكون بعيدة من المحرمات ومن الأمور المشتبهات -كل ذلك- له دخل في صلاح القلب وفساده؛ لأن استعمال الحرام والوقوع فيه مما يؤدي إلى فساد القلب، وكسب الحلال والابتعاد عن الحرام هو الذي يكون به صلاح القلب؛ لأن القلب يصلح باستقامة صاحبه على طاعة الله وطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يفعل المأمورات ويجتنب المنهيات، وهذه هي تقوى الله عز وجل؛ لأن تقوى الله: أن يجعل الإنسان بينه وبين غضب الله وعذابه وقاية تقيه منه، وذلك بفعل المأمورات وترك المنهيات، وهذه هي مناسبة ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم للقلب بعد ذكر الحلال والحرام.
فإن ترك المحرم والمشتبه يعتبر من أسباب صلاح القلب، والعكس بالعكس، فإن الوقوع في الحرام والمشتبهات وترك المأمورات من أسباب فساد القلب، فعلى الإنسان أن يجعل بينه وبين الحرام مسافة بأن يترك الشيء الذي لا بأس به حذراً مما به بأس، ولهذا فإن النبي عليه الصلاة والسلام أتى بذكر القلب بعد هذه الأمور، وهذا هو وجه ذكره بعدها.
ثم فيه بيان عظم شأن القلب وأنه ملك الأعضاء، وأنها بصلاحه تصلح وبفساده تفسد، وقد مهد لذلك رسول الله عليه الصلاة والسلام في بيان عظم شأن القلب بهذا التمهيد، لأن الإنسان إذا سمع هذا التمهيد وهذا التقديم - (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله) - فإنه يتطلع ويحرص على معرفة هذه المضغة.
ثم ما هي هذه المضغة؟ قال: (ألا وهي القلب) فبعد أن بين عظم شأنها وعظم فائدتها في حال صلاحها، وشدة خطورتها في حال فسادها، بعد ذلك جاء البيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها القلب، وأتى في ذلك بأداة التنبيه التي هي: (ألا) لأن (ألا) في حد ذاتها أداة تنبيه (ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة ألا وهي القلب) فهذه أداة تنبيه تجعل الإنسان يتنبه ويعرف أهمية ما بعدها؛ لأن ذلك مما ينبغي الالتفات إليه والاهتمام والعناية به.
وبهذا يتبين لنا أن حديث النعمان بن بشير حديث عظيم، وهو من جوامع كلم الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وقد اشتمل على هذا الإيضاح وهذا البيان وهذا الحصر للأشياء إلى ما هو حلال بين، وإلى ما هو حرام بين، وإلى ما هو مشتبه، ثم بيان الذي على الإنسان أن يسلكه لسبيل المشتبه، وأنه إذا تركه فقد أخذ بأسباب السلامة لدينه وعرضه، وإذا لم يفعل ذلك فإنه قد عرّض عرضه للقدح، وعرض دينه للنقص، وأدى به ذلك إلى أن يقع في الأمر المحرم، ثم هذا البيان والإيضاح من رسول الله صلى الله عليه وسلم لضرب هذا المثل العظيم الذي قرب فيه الأمر المعنوي بتشبيهه بهذا الأمر الحسي، وهو من كمال بيانه ونصحه عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والله تعالى أعلم.