ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما ذكر هذين القسمين من الناس في موقفهم من الأمور المشتبهة ضرب لذلك مثلاً يقرب فيه الأمور المعنوية، بحيث تكون مشابهة للأمور الحسية، وذلك من كمال البيان والنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يضرب الأمثال لأصحابه ولأمته حتى يظهر الأمر المعنوي في صورة الأمر الحسي الذي هو مشاهد ومعاين، فضرب لذلك النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً فقال: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) لأن الرعاة الذين يرعون الغنم والإبل لهم حالتان بالنسبة للحمى، والإنسان إذا قرب منه صار عرضة لوقوع ماشيته فيه؛ لأنها ترى الخضرة أمامها، فتنطلق إليها، وتصل إلى هذه الخضرة التي قد حميت، ومنع الناس والبهائم من الوصول إليها فمن يرعى حول الحمى الذي حمي ومنع من الوصول إليه، وصارت أرضه معشبة ومخصبة، فإن الراعي الذي يكون حول الحمى قد يغفل فتنطلق دوابه وتصل إلى ذلك المكان الأخضر فترعى فيه، فيتعرض للعقوبة.
وأما الذي يبتعد عن الشبهات فإنه كالراعي الذي يرعى بعيداً عن الحمى ويجعل غنمه أو إبله في مكان بعيد عن الحمى بحيث لا تصل إليه؛ لأنه بذلك احتاط وابتعد، فلم يعرض نفسه لأن يقع في أمر يعود عليه بالمضرة، وأما من تهاون وقرب من الحمى وصار على حافته وليس هناك شيء يحجب عنه كجدار أو شيء يمنع من وصول الدواب إليه، فإنها تنطلق وتقع في ذلك الشيء الذي منع منه.
والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضح هذا لمن يتهاون في الأمر ويقع في الأمور المشتبهة، وجعله كالراعي الذي يرعى حول الحمى، فذلك يؤدي به إلى الوقوع في الأمر الممنوع.
وأما الذي يبتعد عن الحمى، وتكون غنمه أو ماشيته في أماكن بعيدة بحيث لو نبت واحدة منها فلن تصل إلى الحمى؛ لأن بينها وبينه مسافة يستطيع أن يردها وأن يلحقها بنظيراتها ومثيلاتها، فإنه يكون بذلك سلم وعمل على الاحتياط والسلامة.
إذاً: هذان القسمان أو الصنفان اللذين مضيا -وهما: الذي اتقى الشبهات والذي وقع في الشبهات- مثلهما كمثل راعيين: أحدهما: يأتي إلى مكان محمي ويجعل غنمه على حافته، فتكون بذلك عرضة لأن تقع في الأمر الممنوع.
والثاني: الذي ابتعد عن الحمى ورعى غنمه في أماكن بعيدة، فإنه بذلك يسلم من أن تصل غنمه إلى هذا الأمر الممنوع منه.
وهذا التمثيل للأمور المعنوية بالأشياء الحسية يعتبر من نصحه صلى الله عليه وسلم وبيانه وفصاحته وبلاغته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
والأمثال يكون فيها تقريب الأمر المعنوي بقياسه وإلحاقه بالأمر الحسي المشاهد المعاين مثلاً: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)، الشبهات: مثلاً لما حول الحمى، والحرام مثلاً للحمى، فالذي يقرب من الحمى ويصير في الشبهات التي هي حول الحمى يصل إلى الممنوع منه (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه).
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الأشياء المعنوية والحسية التي ضربها في المثل هي: أن لكل ملك من ملوك الدنيا حمى، يعني: قد يحمي له مكاناً يختص به، وسواء كان له أو لما يتعلق بالمنفعة العامة كأن يجعل مكاناً للصدقة أو لماشية الصدقة، فالإنسان إذا قاربه فإنه يقع في ذلك الشيء الذي حمي ومنع، وإذا ابتعد عنه فإنه يكون قد سلم وابتعد عن المشتبهات.
قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى): الحمى: هو ما يحميه الإنسان من أرض خصبة لا يأتي إليها أحد، وهذا حمى حسي.
قوله: (ألا وإن حمى الله محارمه): وهذا حمى معنوي، وهو الذي أريد تقريبه بضرب المثل بالحمى الحسي عندما ذكر الراعي يرعى حول الحمى، وهذا هو المشبه به.
وأما المشبه فهو محارم الله عز وجل، والمحارم: الحرام البين الذي لا يجوز الوقوع فيه.
وأن الإنسان ينبغي له أن يبتعد عنها وعن الشبهات التي توصل إليها.
فقوله: (ألا وإن لكل ملك حمى) هذا هو التشبيه الحسي، والذي ذكر فيه أن الراعي يرعى حول الحمى.
وقوله: (ألا وإن حمى الله محارمه) هذا هو المشبه، لأن الأمور المعنوية التي هي حرام لا يجوز للإنسان أن يقدم عليها أو أن يكون قريباً منها بالشبهات التي ليست من الحلال البين ولا من الحرام البين، فمن تساهل في الوصول إليها والوقوع فيها -أي: المشتبهات- سهل عليه أن يقع في المحرم، كما تقدم في أثناء الحديث: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).