قال المصنف رحمه الله: [عن عبد الله بن بشر رضي الله تعالى عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي، فدلني على شيء أتمسك به، فقال: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل) خرجه الإمام أحمد بهذا اللفظ].
هذا الحديث فيه حرص الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير وسؤالهم عن أمور الدين وعن الأمور الجامعة التي يحصلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقة فيها، بل عملها يسير وفضلها كبير وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى، فهو يسأل ويقول: (إن شرائع الإسلام كثرت علي) والمقصود من ذلك: النوافل، وإلا فإن الفرائض يتعين على كل مسلم أن يأتي بها، ولكن السائل يسأل عن الشيء الذي يمكنه أن يعتني به وأن يحرص عليه فيما يتعلق بالنوافل، فهو يطلب أن يدله صلى الله عليه وسلم على باب منها يتمسك به يكون جامعاً للخير ومحصلاً للأجر، كما سبق أن مر بنا في الحديث: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه).
فلما أراد باباً جامعاً يتمسك به من أبواب الخير فيما يتعلق بالنوافل أرشده النبي صلى الله عليه وسلم ألا يزال لسانه رطباً من ذكر الله عز وجل؛ وذلك بكثرة ذكر الله سبحانه وتعالى.
ومعلوم أن ذكر الله عز وجل يطلق إطلاقاً عاماً ويطلق إطلاقاً خاصاً، فإطلاقه العام يدخل تحته الصلوات، ويدخل تحته قراءة القرآن، ويدخل تحته الأذكار، وأما الذكر الخاص فهو الأذكار الخاصة كالتسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، فإن هذه الأذكار هي الذكر الخاص، وإلا فإن الصلاة ذكر لله عز وجل؛ لأنها مشتملة على ذكر الله من أولها إلى آخرها، وكذلك قراءة القرآن فهو خير الذكر وخير الكلام وأفضل الكلام، ثم بعد ذلك الأذكار التي مع الأدعية؛ لأن الأدعية هي سؤال الله عز وجل ما يريده الإنسان، وأما الأذكار فهي الثناء على الله عز وجل بما يليق به من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وهذه هي الأذكار التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون الإنسان لسانه رطباً بها، وذلك سهل عليه في أي وقت وفي أي حين، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما ثبت في الصحيح- كان يذكر الله على كل أحيانه، والله عز وجل أمر بذكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
وأثنى الله عز وجل على الذاكرين والذاكرات فقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35]، ذكر ذلك في جملة الخصال العشر التي ذكرها الله عز وجل في سورة الأحزاب.
فهذا هو المعنى الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وهذا لا شك أنه من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإنسان يأتي بذكر الله عز وجل، وذكر الله عز وجل هو تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل وتعظيم وثناء على الله عز وجل، ويكون لسانه رطباً بذلك؛ لأنه إذا كان مشتغلاً بذكر الله عز وجل صار منشغلاً عن غير ذكر الله عز وجل من الكلام الذي لا يليق والذي لا ينبغي، فتعويد الإنسان نفسه أن يكون ذاكراً لله يحصل به الحسنات العظيمة لعمل يسير وشيء سهل خفيف، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حديث في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وهما من ذكر الله عز وجل، فوصفهما بأنهما خفيفتان على اللسان، وذكر الله عز وجل كله خفيف على اللسان.
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا العمل العظيم الذي هو إدامة ذكر الله وكثرة ذكره سبحانه وتعالى، وهذا يكون من الإنسان وهو ماشٍ وقائم وقاعد ومضطجع وفي جميع أحواله، وذلك سهل عليه؛ لأنه لا يحتاج إلى كلفة ولا يحتاج إلى مشقة، وليس فيه إلا تحريك اللسان بخير، حتى يعود على الإنسان بخير، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة.
وبهذا يكون انتهينا من شرح الأحاديث الأربعين أو الاثنين وأربعين التي جمعها الإمام النووي رحمه الله المتوفى سنة (676هـ)، ثم الثمانية التي أضافها الحافظ ابن رجب المتوفى سنة (795هـ).
وهذا الذي ختم به ابن رجب لا شك أنه ختام عظيم، وهو نظير ختم البخاري لكتابه بحديث: (كلمتان خفيفتان على اللسان)، كما أن الإمام النووي رحمه الله ختم الاثنين والأربعين بحديث أنس بن مالك الذي فيه: (يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي).
فالإمام النووي رحمه الله ختم بذلك الحديث، وابن رجب رحمه الله ختم بهذا الحديث، والبخاري رحمه الله ختم بذلك، ولهذا تابعه بعض العلماء فختموا كتبهم بهذا الحديث، فإن المنذري ختم به كتابه الترغيب والترهيب.