قال المصنف رحمه الله: وعن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم، وقال الترمذي: حسن صحيح.
هذا الحديث فيه بيان أن الإنسان عليه أن يكون متوكلاً معتمداً على الله في جميع شئونه مع أخذه بالأسباب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، فلا يكون متوكلاً بدون الأخذ بالأسباب وإنما يكون متوكلاً مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أرشد إلى الاثنين معاً، كما في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله).
فقوله: (احرص على ما ينفعك)، هذا فيه أخذ بالأسباب واستعانة بالله عز وجل وتوكل عليه وطلب للمعونة منه، فيكون الإنسان قد جمع بين الأخذ بالأسباب والاعتماد على مسبب الأسباب وهو الله سبحانه وتعالى، فإن الأسباب إذا لم يشأ الله أن تكون مفيدة لم يحصل الإنسان من ورائها على فائدة، ولكنها تكون مفيدة بتوفيق الله عز وجل وإعانته وتسديده، فعند ذلك ينفع السبب وينتهي إلى حصول المسبب، وإلا فإن الأسباب في حد ذاتها دون عون الله لا تنفع، فعلى الإنسان أن يأخذ بها ولا يعتمد عليها، ولكن يعتمد على مسببها الذي هو النافع الضار الذي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وكما جاء في حديث وصية النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
وفي هذا الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير)، ثم بين كيف يكون رزق الطير، فقال: (تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، فالطير لا تجلس في أوكارها تنتظر شيئاً يأتيها وإلا ماتت وهلكت، وإنما شأنها أنها تأخذ بالأسباب فتذهب في الصباح خاوية البطون خماصاً، ثم ترجع بطاناً، أي: ممتلئة البطون، فهي قد أخذت بالأسباب، فأنتم عليكم أن تأخذوا بالأسباب وأن تتوكلوا على الله سبحانه وتعالى، لا أن تتوكلوا على الله عز وجل بدون أخذ بالأسباب؛ لأن الأخذ بالأسباب والاعتماد عليها والغفلة عن الله عز وجل من أخطر الأشياء، واعتقاد أن الأسباب تنفع وتضر بطبيعتها قدح في التوحيد، فهي لا تنفع ولا تضر إلا إذا جعلها الله نافعة أو جعلها ضارة.
ومحو الأسباب عن أن تكوناً أسباباً نقص في العقل، فالذي يقول: إذا كتب الله لي شيئاً فسيأتيني ولن أفعل الأسباب ناقص العقل، وذلك مثل أن يقول الإنسان: إن الولد لا يأتي إلا عن طريق الزواج، لكن إذا كتب الله لي أن يأتيني فسيأتيني ولو بغير زواج؛ فهذا نقص في العقل؛ لأن الولد لا يأتي إلا بفعل الأسباب بطريق الزواج، قال عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:5 - 7].
وجاء في حديث الرجل الذي قال: أعقل ناقتي أم أدعها وأتوكل؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (اعقلها وتوكل)، يعني: خذ بالأسباب وتوكل على الله عز وجل، فلا يهمل الإنسان الأسباب أصلاً ولا يأتي بالأسباب معتمداً عليها غافلاً عن الله عز وجل؛ لأن الأسباب إذا لم يجعلها الله نافعة لم يحصل من ورائها فائدة للإنسان.
وقوله: (لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، الطير هذا شأنها، والله تعالى ألهمها هذا العمل الذي قامت به من غدوها في الصباح تبحث عن الرزق ثم ترجع في المساء فتبيت في أوكارها وقد امتلأت بطونها وجلبت الرزق والعيش لأفراخها التي في عشها، فلم تهمل الأسباب؛ فأنتم كذلك إذا فعلتم مثلما تفعل هذه الطيور معتمدين على الله عز وجل مع أخذكم بالأسباب، فإن الله تعالى يرزقكم ويحقق لكم ما تريدون من الخير.