ثم ذكر إقامة الحدود وأنه فرض فرضه الله جل وعلا على عباده لا بد من إقامتها، والكلام في هذه المسألة من أجل بيان اعتقاد أهل السنة والجماعة سيكون في مسألتين: المسألة الأولى: هل إقامة الحد يكون لآحاد الأمة؟ فنقول: إقامة الحدود لولي الأمر، وهناك أدلة عامة على إقامة الحدود منها: قول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} [النور:2].
وقوله جل وعلا: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38].
فهذه أدلة عامة، ولكن جاءت أدلة خصصت هذه الأدلة العامة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعافوا الحدود فيما بينكم، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد).
وأوضح من ذلك قصة صفوان بن أمية لما سرق رجل شملته، فأخذه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تقطع يده فقال: يا رسول الله، إني قد سامحت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلا كان ذلك قبل أن تأتيني به؟!).
فهذه دلالة على أن إقامة الحدود ليست لأي أحد؛ لأنه كان يمكن للصحابي أن يقيم الحد على السارق؛ لكنه ذهب به إلى إمام المسلمين وولي الأمر وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وبعدما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده قال: سامحته يا رسول الله، فقال: (هلا كان ذلك قبل)، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ألم بذنب فليستتر بستر الله جل وعلا، فمن أظهر لنا صفحته أقمنا عليه الحد).
فهذه دلالة على أن ولي الأمر هو الذي يقيم الحد، ويمكن له أن يوكل غيره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) يعني: إن اعترفت بالزنا فارجمها.
المسألة الثانية: إذا أسقط الولي الحدود فلم يقم أي حد، فهل لآحاد الأمة أن يقيموا هذه الحدود؟ هذه المسألة فيها تفصيل: فأقول: الأصل أنه لو أسقط الولي الحدود فإن لآحاد الأمة أن يقيموها؛ لأن الله جل وعلا ما فرض هذه الحدود إلا لتطبق على أرض البسيطة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه) إلى آخر الأدلة، لكن هذا الأمر يقيد بقيود أشد ما تكون غلظة، فإن آحاد الأمة إذا أقاموا هذه الحدود فربما حصل بذلك تأليب للناس على ولي الأمر، فيترتب على ذلك مفسدة أعظم كأن يقوم الوالي بأخذ من أقام الحد وأخذ غيره معه بغية إثبات قوة يده وسلطانه، فالمسألة مقيدة بالمصلحة والمفسدة، فإن كان الرجل يعلم أنه لو وصل الوالي أنه أقام الحد فإن الوالي لن يعاقبه أو يعاقب بعده من معه، ولن ينزل على الأمة بأسرها هدماً وقتلاً وسجناً، فهذا مأمور بأن يقيم الحد.
فضابط المصلحة والمفسدة هو الذي يضبط لنا إمكانية إقامة آحاد الأمة للحدود.
لكن في واقعنا المعاصر هل يمكن للإنسان أن يقيس مصلحة ومفسدة، الصحيح: أن المفسدة أعظم ما تكون، فالراجح أنه ليس لآحاد الأمة في هذا الواقع المعاصر أن يقيم الحدود، فنحن قررنا مسألة نظرية علمية، لكن الآن ليس لآحاد الأمة أن يقيم الحدود التي عطلها الوالي.
لكن لو جيء برجل زنى وأقيم أمام الوالي، وجاء رجل وأخذ السوط وجلده، فلما ضربه السوط الأول سكت الوالي، ثم الثاني وإلى الثمانين وفي كل هذا يسكت الوالي، فهذا يدل على رضاه وإقراره.