ومراتب القدر أربع، وأولها: مرتبة العلم.
أي: علم الله عز وجل بما هو كائن إلى قيام الساعة.
فالله عز وجل علِم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما علم ذلك كتبه.
وهذه هي المرتبة الثانية، فكل شيء بقدر مكتوب في اللوح المحفوظ الذي لا يلحقه محو ولا تبديل ولا تغيير، فالمحو والتبديل والتغيير إنما يكون في الصحف التي بأيدي الملائكة الكرام البررة، ولذلك يقول الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] أي: الذي لا يقبل محواً ولا إثباتاً، ولا تبديلاً ولا تغييراً غير الذي فيه.
فالله عز وجل كتب علمه الأزلي، وما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، ولا يخفى عليه شيء قبل أن يخلق الخلق.
ولذلك روى مسلم في صحيحه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) ولا بد أنه حينما عَلِمه كَتَبه، والله عز وجل عالم وعليم سبحانه وتعالى، فعلم ما العباد عاملون، وما هم إليه صائرون، فلما كان ذلك منه خلق القلم، وهو أول مخلوق لله عز وجل على أرجح الأقوال، كما في الحديث: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة) فكتب القلم.
فأول مرتبة هي إثبات العلم لله عز وجل، فالله تعالى يعلم الغيب كما يعلم الشهادة، وكل ذلك لديه مشاهد معلوم، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية.
وهذا بخلاف ما يقوله صناديد القدرية: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً، وكأنهم أرادوا أن يقولوا: إن أي واحد من الحاضرين إذا أراد أن ينصرف من المسجد فإن الله تعالى لا يعلم إلى أين ينصرف يميناً أم شمالاً، زاحفاً على يديه أم ماشياً على قدميه؟ فالله لا يعلم ذلك إلا بعد أن يمشي العبد! وهذا بلا شك كفر، ولذلك أجمعت الأمة على كفر من أنكر العلم الأزلي السابق لله عز وجل.
والله عز وجل علم ذلك فكتبه، فالذي ينفي العلم عن الله عز وجل لا بد وأنه ينفي الكتابة، والقلم يكتب الذي كان في علم الله بأمر الله عز وجل، فإذا كان النافي ينفي العلم فلا بد وأن ينفي الكتابة كذلك.
المرتبة الثالثة: وهي مرتبة عظيمة، ولعلها بيت القصيد، وهي: مرتبة المشيئة والإرادة لله عز وجل.
والمشيئة أو الإرادة نوعان: مشيئة دينية شرعية، مبناها على المحبة والرضا، وموضوعها الأمر والنهي قال الله افعل، أو نهي الله فلا تفعل، فقول الله افعل مثل: صل، صم، زك، حج، مر بالمعروف وانه عن المنكر فكل ذلك شرع، فلو فعلته فإن الله يحب ذلك، ولو أن الله تبارك وتعالى نهاك عن المعاصي وأتيتها فالله تعالى يبغض ذلك.
إذاً: فالإرادة أو المشيئة الشرعية الدينية: هي كل أمْر أمَر الله عز وجل به وهو يحبه، فالصلاة عمل يحبه الله عز وجل، وكذلك الصيام والزكاة والحج وغير ذلك من أوامر الإسلام، فإذا أتاها العبد دخل في محبة الله عز وجل هو وعمله؛ لأن الله أمره فأطاع الأمر.
والله تبارك وتعالى لا يُحب الزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، وغير ذلك من المعاصي، وإنما يبغض ذلك، فحينما أبغضها نهانا عنها، ولا يتصور أن الله تعالى ينهانا عن شيء وهو يحبه.
ولذلك نقول: إن المناهي -وهي المعاصي والمخالفات الشرعية- مبناها على بُغض الله عز وجل، ولكننا نقول: إن الإرادة الربانية أذِنت في وقوعها، فأعظم ذنب هو الشرك بالله عز وجل، والشرك موجود في الأرض، والقتل موجود، والسرقة موجودة، والزنا موجود، وشرب الخمر موجود وكل المعاصي موجودة، ولا يتصور أن يقع في الكون شيء بغير إرادة الله، فلو أن شخصاً قال: أنا سأقتل شاء الله أو أبى، فلا يتسنى له القتل أبداً.
ولا يمكن، فهذا إجرام وكفر بالله العظيم.
لذلك فنحن نقول: إن القتل وقع بإرادة الله، والذي كسب القتل وفعل القتل بيديه هو العبد.