إن جميع أفعال العباد خيرها وشرها مخلوقة لله عز وجل، بمعنى أن الله تعالى أذن في وقوعها، سواء كانت في جانب الطاعات كالأوامر، أو في جانب المناهي كالمعاصي كل ذلك يقع بإذن الله وإرادته، لكن الطاعات تقع بإرادة الله الشرعية الدينية التي مبناها على المحبة والرضا، وأما المعاصي فإنها تقع بمشيئته وإرادته الكونية القدرية، أي: أن الله عز وجل قدر أن تقع هذه المعاصي في الكون.
فالقدرية بمعنى: أن الله هو الذي قدرها وخلقها، وأذِن في وقوعها.
والكونية: أنها أفعال تقع في الكون وفي حياة الناس.
وكل المعاصي عبارة عن ترك أمر، أو فعل نهي ترك أمر لله عز وجل، أو فعل أمر نهى الله عز وجل عنه، فلو أن العبد ترك طاعة لله قد أمر بها، أو أتى معصية لله عز وجل قد نهى عنها؛ فإننا نقول: إن ذلك مخلوق لله عز وجل، ولكن العبد قد اكتسبه كما اكتسب الطاعة بيديه، ولكن المعاصي مبناها على بغض الله عز وجل، فالمعاصي واقعة في الكون بإرادة الله؛ لأنه لا يكون في الكون إلا ما أراد وقدر.
إذاً: قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، هذا لفظ عام يشمل الطاعات والمعاصي، والخير والشر، والقدر حلوه ومره، وخيره وشره، ولذلك جاء عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] قال: هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
وهذا تفسير غريب جداً، والغرابة هذه لا تخرج إلا من قلب نوّره الله عز وجل بنور الإيمان.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] معنى الآية هو: تخصيص وقصر الخوف من الله عز وجل على أهل العلم، فأهل العلم هم أعلم الناس بالله عز وجل، فكلما ازداد المرء علماً ازداد خشية لله عز وجل، فهذا تفسير لظاهر الآية.
وابن عباس أتى بمعنى أعمق من هذا المعنى الظاهر، فيقول: العلماء الذين يخشون الله عز وجل هم الذين يقولون: إن الله على كل شيء قدير.
يقول: وهذا من فقه ابن عباس وعلمه بالتأويل -أي: بالتفسير- ومعرفته بحقائق الأسماء والصفات، فإن أكثر أهل الكلام لا يوفون هذه الجملة حقها، ولو كانوا يقرون فمُنكرو القدر وخلق أفعال العباد لا يقرون بها على وجهها، فالذين ينكرون القدر سينكرون أن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، فهم لا يقرون بها على وجهها، ولا يأتون بهذا التأويل على وجهه.
ومنكرو أفعال الرب القائمة به لا يقرون بها على وجهها، بل يصرحون أنه لا يقدر على فعل يقوم به، ومن لا يقر بأن الله سبحانه كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء؛ لا يقر بأن الله على كل شيء قدير، فالله تعالى يأذن لهذا بالطاعة، ويأذن لهذا بالمعصية، أي: أنه ييسر لهذا الطاعة وييسر لهذا المعصية، لأن الله علم أزلاً أنه إذا خلق فلاناً بين له الطريق وبين له الحق من الباطل على لسان رسله وأنبيائه، وكتبه التي أنزلها عليهم، وقد ضربت لك مثلاً في الدرس الماضي وهو لو أن غاية أو هدفاً أمامك له طريقان أحدهما معبد ممهد وميسر، والثاني طريق وعر صعب فيه شوك، وقلنا لك: اسلك أحد الطريقين لتصل إلى هدفك، فأي الطريقين ستسلك؟ إنه السهل، فالله عز وجل خلق المعاصي وخلق الطاعات، وخلق الجنة والنار، فإذا سلكت المعاصي وصلت وبلغتك إلى النار، وإذا سلكت الطاعات بلغتك إلى الجنة، فأنت حينئذ تختار لنفسك، فإذا كنت تريد النار فاسلك طريق المعاصي، وإذا كنت تريد الجنة فاسلك طريق الطاعات، فالعبد له اختيار.
ولذلك فإن الله عز وجل لا يُعذب عبداً على معصية اقترفها وهو لا يعلم أنها معصية، أو فعلها ناسياً أو مخطئاً (إن الله رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فلو أتاك السلطان وأكرهك على فعل معصية ففعلتها، ولو كانت هذه المعصية هي كلمة الكفر، وعذبك عذاباً لا طاقة لك به: إما أن تنطق بها، وإما أن يفتك بك، حينما لم يكن لك قِبل بهذا العذاب ونطقت بكلمة الكفر فإنك لا تكفر، فانظر إلى رحمة الله عز وجل، فإنه يرفع عن عباده الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها؛ فإنما ذلك وقتها)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (ليس في النوم تفريط، إنما التفريط في اليقظة)، والتفريط أن يكون الإنسان مستيقظاً فيأتي وقت صلاة العصر مثلاً فيقول: لا يزال الوقت بدري حتى يأتي وقت المغرب، ويقول: العشاء ممدودة إلى الفجر فهذا تفريط؛ لأن الله تعالى جعل ميقاتاً محدداً للصلاة فقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء:103] أي: موقتاً بوقت.
ولو أن رجلاً متعوداً أن يصلي جماعة، ففاتته الجماعة أو فاته الفرض، وفي الأسبوع المقبل تذكر أنه كان في الأسبوع الماضي قد نام وذهبت عليه صلاة العصر، ففي أي وقت تذ