التفسير الذي نذهب إليه: إثبات الصفة لله تبارك وتعالى كما أراد على الوجه اللائق به تبارك وتعالى، نؤمن بذلك ونسلم، وإلا فإننا في النهاية نقع في الخوض في ذات الله، وسنصوره في عقولنا، ولما كان الخوض محرماً كان الثاني (التصور) من باب أولى محرماً، فدل على أنه ليس معنى اليد: القدرة، إذ إن الله عز وجل خلق الأشياء جميعها بقدرته، وأراد الله إثبات يدين لم يشارك إبليس آدم عليه الصلاة والسلام في أن خلق بهما، ولا يخلو قوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] من إثبات اليدين لله عز وجل، كذلك لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله تعالى له يد جارحة كأيدينا، وإن قلت ذلك فقد مثلته بيدي، وهذا لا يجوز.
فلابد في النهاية من إثبات يدين ليست نعمتين، ولا جارحتين ولا قدرتين، ولا يوصفان إلا كما وصف الله عز وجل بها نفسه، فلا يجوز عند أهل اللسان أن يكون معنى قول القائل: عملت بيدي.
يعني: نعمتي.
فلو أن واحداً قال لك: أنا رفعت هذه المنضدة بيدي.
هل تفهم من ذلك: أنه رفعها بنعمتيه؟ فتفسير اليد بالنعمة ليس معلوماً في كلام العرب خاصة عند التثنية.
أما عند الإفراد والجمع فهذا وارد في كلام العرب.
تقول: فلان له علي يد.
أي: له علي جميل وفضل ونعمة.
هذا عند الإفراد، وفلان صاحب أياد بيضاء.
أي: صاحب نعم وتفضل.
وهذا في الجمع.
أما عند التثنية فإن العرب لا تعرف عند التثنية أن اليد بمعنى: النعمة.
قال ابن تيمية: وإذا فسدت الأقسام الثلاثة صح القسم الرابع وهو أن معنى قوله: (بِيَدَيَّ): إثبات يدين ليستا قدرتين ولا نعمتين ولا جارحتين، ولا يوصفان إلا بأن يقال: بأنهما يدان ليستا كالأيدي، خارجتان عن سائر الوجوه الثلاثة التي سلفت.
إذاً: جاءت اليد في كتاب الله عز وجل على ثلاثة أنواع وأنحاء، قال تعالى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران:26] على الإفراد.
وقال تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] على التثنية.
وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
فاليد أتت بالإفراد وأتت بالتثنية وأتت بالجمع، وقلنا: إن العرب لا تعرف ذلك عند تثنية اليد وإنما تعرفه إذا تعدى الخبر إلى المفرد أو إلى الجمع، وإذا راجعنا هذه الاستعمالات الثلاثة في اللغة فإنك ستجد أن الله تبارك وتعالى إذا ذكر اليد المسماة يضيف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد: (بيدي) ويتعدى الفعل بالباء إليهما.
أي: إلى اليدين، كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] في الإفراد والتثنية.
وهنا ذكرهما بصيغة الجمع، فأضاف العمل إلى اليد نفسها، وإضافة العمل إلى اليد تعني: النعمة، كما قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71].
فقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] أي: مما عملنا.
وهذا يشهد له قول الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] والمعنى: بما كسبتم.
وقوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج:10] أي: بما قدمت أنت، لأنه تعدى بحرف الباء: ((فَبِمَا كَسَبَتْ))، وقوله: ((بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ))، فإذا تعدى الفعل بحرف الباء يضاف العمل إلى العامل، وليس إلى الصفة، وأما إذا أضيف الفعل إليه تبارك وتعالى ثم عدي الفعل بالباء إلى يده مثناه أو مفردة، فهذا مما باشرته يده سبحانه وتعالى على الحقيقة.
فقوله: (خلقت بيدي) تعدى الفعل بالباء هنا، ولابد أن يضاف إلى اليد حقيقة عند التثنية؛ لأن الله تعالى هو الذي باشر خلق آدم بيديه تبارك وتعالى، ولا يحتمل المعنى أبداً القدرة، وقد جاء في التوراة في قول موسى لآدم وآدم لموسى في حديث المحاجة: (احتج آدم وموسى فقال موسى لآدم: أنت آدم، أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة أنت الذي خلقك الله بيده فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله بكلامه وكتب لك التوراة بيده).
إذاً: الله تعالى خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، فلما احتج موسى على آدم بأن الله خلقه بيده، احتج عليه كذلك آدم بأن الله كتب له التوراة بيده وكلمه تكليماً.
الشاهد من هذا: أن الله تعالى باشر كتابة التوراة بيده سبحانه، وباشر خلق آدم بيده سبحانه، فلا يجوز أن نقول: إن الله كتب التوراة بنعمته، أو بقدرته، لأن كل شيء بنعمة الله، وكل شيء بقدرة الله، فنقول: للتوراة هنا فضيلة وليست صفة على غيرها، وكذلك إذا كان الله تعالى خلق آدم بقدرته فكذلك خلق جميع الخلق بقدرته، فما الداعي أن يقول: إنه خلق آدم بقدرته؟ فليس هناك فضل لآدم على بقية المخلوقات إذا حملنا اليد على القدرة أو على النعمة؛ وذلك لأن الجميع مخلوق بقدرة الله.
إذاً: هذه اليد التي باشرت الخلق يد على الحقيقة، وأن الله باشر ذلك على الحقيقة، وخلاصة ذلك: أن هذه الصفة صفة بها العطاء والأخذ والقبض وهي غير القدرة وغير النعمة، وقد ورد في كثير من الأدلة صفة اليد كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (