صفة اليد كجميع الصفات الخبرية التي أخبر المولى تبارك وتعالى أنه متصف بها، قد طاشت فيها سهام الخلف عن إصابة الهدف، وأخذوا يفسرونها تفسيراً يساوي عقيدتهم، ففسروها مرة بالقدرة، ومرة فسروها بالنعمة؛ يريدون الفرار بزعمهم من التشبيه والتمثيل، ويا سبحان الله! قد وقعوا فيما فروا منه؛ لأن الله تبارك وتعالى أثبت ذلك لذاته العلية وهو أعلم بذاته وبجميع خلقه، أثبت هذا لنفسه وهم نفوه، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
(مَا مَنَعَكَ) أي: يا إبليس؟! لم لم تسجد لآدم الذي خلقته بيدي؟ و (يدي) تسمية.
وهذا فيه: إثبات أن لله تبارك وتعالى يدين لا يداً واحدة.
ويقول تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64]، رداً على اليهود الذين قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64].
فهل من الجائز أن يقال في قوله تعالى: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي، أو بقدرتي؟ إن هذا الكلام لا يستقيم في لغة العرب؛ لأن المعلوم أن لله تبارك وتعالى قدرة واحدة تشمل جميع الخلق، ولذلك قال الله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:120]، فلم يثبت المولى تبارك وتعالى تعددية في قدرته، فتفسير اليد بالقدرة تفسير لا يعرفه العرب، وإن قلت بالتعددية فلا بد أن تطالب بالدليل ولا دليل، فلابد أن ترجع مرة أخرى للبحث عن معنى اليد.
إذاً: اليد صفة لله تبارك وتعالى، وهي معلومة لدينا، أما كيفيتها في جنب الله عز وجل فإن الله تعالى هو الذي يعلمها، وليس من الجائز أن يقال: (مما خلقت بنعمتي).
بالإجماع؛ لأن الذي يؤمن به جميع المؤمنين -والخلف كذلك منهم- أن نعم الله كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما أخبر الله فقال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
يعني: كثيرة جداً.
فلا يستقيم كذلك أن يقال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بنعمتي؛ لأن الله تعالى نعمه كثيرة جداً، بحيث أن العاد والحاصي لا يستطيع أن يعدها ولا أن يحصيها.
ويلزم من قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] أن يقال: خلق الله آدم بقدرتين.
وهذا لا يجوز بالإجماع؛ لأن الذي ندين به -سواء كان في ذلك السلف والخلف- أن لله تعالى قدرة واحدة وباهرة وهو على كل شيء قدير؛ لعدم الدليل على التعدد، وهذا يتضح فيه الصواب في المسألة بإذن الله تعالى.
وهذا الإمام أبو الحسن الأشعري زعيم تلك الفرقة، تاب وأناب ورجع إلى مذهب السلف، وتبرأ مما كان عليه من قبل، قال هذا الإمام العظيم الجبل في رسالته لأهل الثغر وفي بقية كتبه الاعتقادية: فلو كان الله عز وجل عنى بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] القدرة لم يكن لآدم عليه السلام على إبليس في ذلك ميزة؛ لأن الله تعالى خلق آدم بقدرته وخلق إبليس بقدرته، بل خلق جميع الخلق بقدرته تبارك وتعالى، وكل مولود يولد بقدرة الله وإرادته، فإذا كانت اليد هنا بمعنى: القدرة فلابد أن إبليس سيرد على المولى تبارك وتعالى هذا القول، ويقول: أنت كذلك خلقتني بقدرة، كما خلقت آدم بقدرة، لكن إبليس لم يرد على المولى تبارك وتعالى؛ لأنه علم من الخبر أن الله تعالى خلق آدم بيديه سبحانه وتعالى، وأخبر الله تبارك وتعالى إبليس أن آدم يمتاز عنه ويتفوق عليه بأنه خلقه بيديه الكريمتين سبحانه وتعالى.
وإبليس لما فهم ذلك لم يرد، فسبحان الله! الذي فهمه إبليس لم يفهمه الأشعرية، ولم يفهمه المعتزلة، ولو كان خالقاً لإبليس بيديه كما خلق آدم بيديه لم يكن بتفضيله عليهم بذلك وجه من الوجوه، ولقال إبليس محتجاً على ربه: فقد خلقتني بيديك كما خلقت آدم بهما.
فلما أراد الله عز وجل تفضيله عليه بذلك قال له موبخاً باستكباره على آدم أن يسجد له: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75].
إذا كان لا يصح في الأذهان ولا في الاعتقاد تفسير اليد بالقدرة ولا بالنعمة، فلابد أن يكون هناك تفسير ثالث، وهو إثبات هذه الصفة للمولى تبارك وتعالى على النحو الذي يليق بجلاله سبحانه، وإذا ثبت بطلان هذا التأويل فلابد من الذهاب إلى تفسير غير الذي ثبت لدينا أنه باطل.