قال: [ويؤمن بالآثار، والقرآن، وأنه كلام الله وليس بمخلوق، ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق]؛ لأن الوقوع فيها كفر، وذلك إذا وقعت فيها عالماً بخطورتها، غير مكره ولا مجبر عليها، أما إذا كان الأمر غير ذلك فإنك إن شاء الله تعالى معذور.
ومن العجيب أن مسألة خلق القرآن هذه لا يوجد له ظل، والأمراء والسلاطين والحكام في وادي آخر ليس لهم علاقة بالقرآن ولا بالسنة، والقضية لا تعنيهم، بل لا يعرفها كثير من أهل العلم والدعاة والمشايخ، فلا يعرفون ما معنى القرآن كلام الله غير مخلوق، ولو سألت أحدهم فقلت له: القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ لقال لك: القرآن مخلوق؛ لأنه إذا لم يكن مخلوقاً فماذا سيكون؟ على الرغم أنه شيخ كبير جداً.
ونحن نرى بعض الناس إذا حلف على شيء وضع يده على القرآن وقال: ورب هذا القرآن -ثلاث مرات- فإذا كان الله تبارك وتعالى هو رب هذا القرآن فيلزم من ذلك أن يكون القرآن مربوباً -أي: مخلوقاً- ومن هنا فكأنه يقول: إن القرآن مخلوق؛ لأنه لا يعرف شيئاً، فهو حلف على المصحف ولم يدر ما تبعة ذلك.
قال: [ولا تضعف أن تقول: ليس بمخلوق، فإن كلام الله منه -أي: منه بدأ- وليس منه شيء مخلوق، وإياك ومناظرة من أحدث فيه].
أي: من قال: بأنه مخلوق، فلا تجادله ولا تخاصمه، والعجيب أنك قد تجد نصرانياً في الشارع فتسأله: هل عيسى ابن الله؟ فيرد عليك مغضباً: يا شيخ! إن أردت أن تسأل عن شيء في الدين فاذهب إلى الكنيسة واسأل الأسقف، أما أنا فلا تسألني عن شيء من الدين، ويهرب منك، بينما الواحد منا لا يعرف أي شيء، بل لا يعرف أن يتوضأ وأن يصلي، ويقول: أعرضوا علي ما عندكم، فو الله ما تسألوني عن شيء من أمر الدنيا والدين إلى قيام الساعة إلا وسأفتيكم فيه قبل أن أقوم من مقامي هذا! قال: [وإياك ومناظرة من أحدث في القرآن، ومن قال باللفظ وغيره].
هذه مسألة فرعية، وقد ظهرت في العراق كما ظهر أصل الاعتزال في بلاد العراق، وذلك لما تعرضوا لمسألة القرآن: أهو مخلوق أم غير مخلوق؟ فماجت البلاد بهذه الفتنة، واختبر بها العباد وخاصة أهل العلم، كالإمام البخاري عليه رحمة الله تعالى، وذلك لما خرج من بخارى ودخل العراق، فقال أهلها: سوف نختبر البخاري: هل القرآن مخلوق أم لا؟ فسألوه ذلك بدل أن يستفيدوا منه، ولو أجاب عليهم: بأن القرآن مخلوق، فإنه سيكون له أتباع وأعداء، ولو قال: إنه غير مخلوق، فإنه سيكون له أيضاً أتباع وأعداء، ففي كل الأحوال لا بد وأن تقوم الفتنة، فأجاب فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ثم أتوا مرة أخرى للبخاري بعد أن سلموا له في الأولى، وقالوا له: ماذا تقول يا إمام في اللفظ؟ هذه بلوى جديدة، وما دام أنه نجح في الأولى فلا بد أن يقع في الثانية.
فقال رحمه الله: لفظي بالقرآن مخلوق.
فأحدثوا ضجة عظيمة، وانصرفوا في الشعاب والأودية يقولون: يقول البخاري: القرآن مخلوق، مع أنهم سألوه عن اللفظ ولم يسألوه عن القرآن، حتى طردوه من العراق، ثم دخل نيسابور، وكان أول ما دخل نيسابور قال محمد بن يحيى الذهلي: عليكم بهذا الرجل، فإنه لن يدخل في بلدكم أفضل منه، وليس هناك أعلى منه إسناداً، فخرجت نيسابور عن بكرة أبيها تستقبل البخاري حتى أدخلوه المدينة، ثم أخذ الناس في حضور مجلسه وترك مجلس إمامهم محمد بن يحيى الذهلي، وقد كان من أعظم تلاميذ محمد بن يحيى الذهلي الإمام مسلم، فقد أخذ يحضر عند الإمام البخاري، وترك مجلس شيخه الذهلي، ثم بعد مرور فترة من الزمن جاء الحسد والغيرة عند الذهلي، فأخذ يفكر في إخراج البخاري من نيسابور، فكتب الذهلي رسالة وأرسلها إلى السلطان قال فيها: إن فلاناً قد فتن القوم، وإنه يقول: إن القرآن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن الاعتزال كان ظاهراً، وكان هو دين السلطة في ذلك الوقت، فلما وشى به عند السلطان أمر البخاري أن يترك البلاد، فجهز متاعه وأدلج ليلاً، وفي اليوم الثاني حضر مسلم مجلس الذهلي، وامتلأ المجلس إلى آخره، لكن الإمام الذهلي أراد أنه يصفي حساباته مع البلد كلها خاصة الإمام مسلم، فقال: من قال بقول البخاري في القرآن فليعتزل مجلسنا.
فعرف الإمام مسلم أنه هو المقصود، والإمام مسلم في الحقيقة كان سريع الغضب حاد المزاج، فكان أول ما سمع هذه الكلمة من الذهلي وقف قائماً في وسط الطلاب، ووضع عمامته على كتفه وخرج من المجلس، ولما رجع إلى البيت برك بعيراً وحمله وقره مما كتبه عن الذهلي.
ولك أن تتصور أن الإمام مسلم قد أخذ عن الذهلي ما يملي دفاتر تبلغ حمل بعير، وأمر الجمال أن يدفع هذه الكتب إلى الذهلي