قال ابن القيم: (فقال قائلون: أرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة)، ونحن من قبل رجحنا هذا الرأي وقلنا هو الرأي الراجح، فأرواح المؤمنين عند الله تعالى في الجنة، شهداء كانوا أم غير شهداء.
أي: جميع المؤمنين.
(إذا لم يحبسهم عن الجنة كبيرة ولا دين).
وهذا يدل على أن المرتكب للكبيرة لا ينفى عنه الإيمان، كما أن صاحب الدين محبوس بدينه إلا أن يعفو الله عز وجل عنه، وأن يكافئ الدائن له، وأنتم تعلمون أن صاحب الكبيرة في مشيئة الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، فكونه محبوساً حتى يشاء الله تعالى له العذاب أو المغفرة، يدل هذا على أن روحه كذلك في داخل هذه المشيئة.
قال: (ويلقاهم ربهم بالعفو عنهم والرحمة لهم)، أي: صاحب الدين وصاحب الكبيرة (وهذا مذهب أبي هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما).
قال الشيخ الألباني: وهو الصحيح من الأقوال -أي: أن هذا أصح الأقوال في المسألة؛ لأن غيره مما لا دليل عليه في السنة أو في أثر صحيح- قال: ومع ذلك ستتصل بالبدن متى شاء الله عز وجل.
أي: أن الروح ترجع إلى البدن، والأصل عدم رجوعها، لكن إذا شاء الله تعالى أن ترجع الروح إلى البدن رجعت، فالأصل عدم نزول الروح مرة أخرى في البدن، لكن إذا شاء الله تعالى إنزالها نزلت، وإذا شاء الله تعالى تركيب الروح في البدن ركبت، وذلك في اللحظة.
أي: في أقل من اللحظة؛ وذلك لأنه كان السائل يأتي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسأله؟ فينزل جبريل بالخبر في أقل من لمح البصر، وظهور الشعاع في الأرض وانتباه النائم، أي: أن المقصود: أن مسألة إتيان الروح من الجنة أو من السماء السابعة أو من السماء عموماً فتكون في بدن الميت ليست مسألة عسيرة ولا متأخرة، بل هي تتم كما لو كنت نائماً فانتبهت، وهي لحظة واحدة بين النوم واليقظة، فكذلك نزول الروح ودخولها في البدن.
الرأي الثاني: (وقالت طائفة: هم بفناء الجنة على بابها -يعني: هم على أبواب الجنة- يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها.
وقالت طائفة: الأرواح على أفنية قبورها -أي: في الأفنية والشوارع والساحات التي أمام القبور معسكرة هناك- وقال الإمام مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت -أي: تذهب في أي مكان، وكل هذا في أرواح المؤمنين- وقال الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله: أرواح الكفار في النار، وأرواح المؤمنين في الجنة).
وهذا الرأي يوافق المذهب الأول الذي رجحناه وصححناه.
(وقال أبو عبد الله ابن منده: وقال طائفة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ولم يزيدوا على ذلك.
قال: روي عن جماعة من الصحابة والتابعين: أرواح المؤمنين بالجابية -والجابية: اسم قرية بالشام- وأرواح الكفار ببرهوت بئر بحضرموت.
وقال صفوان بن عمرو: سألت عامر بن عبد الله أبا اليمان: هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) عبر عن الروح هنا بالنفس، وهذه مسألة محل نزاع: هل النفس هي الروح أم أن النفس شيء والروح شيء آخر؟ محل نزاع، والراجح: أن النفس هي الروح.
قال: (هل لأنفس المؤمنين مجتمع؟) يعني: هل لهم مكان يجتمعون فيه؟ (فقال: إن الأرض التي يقول الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] قال: هي الأرض التي يجتمع إليها أرواح المؤمنين حتى يكون البعث).
أي: أنه قال: نعم.
هناك مكان في الأرض سيجتمع فيه أرواح المؤمنين، وهذا أحد المذاهب، والمسألة فيها أكثر من اثني عشر مذهباً.
مذهب منهم يقول: هي في بقعة من بقاع الأرض تجتمع أرواح المؤمنين فيها حتى يكون البعث.
(وقالوا: هي الأرض التي يورثها الله المؤمنين في الدنيا.
وقال كعب الأحبار: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكفار في سجين في الأرض السابعة تحت جند إبليس).
على أية حال يغلب على الظن أن كعب الأحبار إنما أخذ الكلام من كتب بني إسرائيل؛ لأنه كان حبراً من أحبارهم، ويروي من كتب الإسرائيليين بعد إسلامه.
(وقالت طائفة: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكفار ببئر برهوت.
وقال سلمان الفارسي: أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت، وأرواح الكفار في سجين.
وفي لفظ عنه: نسمة المؤمن -أي: روحه- تذهب في الأرض حيث شاءت.
وقالت طائفة: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله).
وتأولوا في ذلك أحاديث ربما ذكرناها في هذا المكان من قبل، لكنها لا تشهد لهذا المعتقد.
(وقالت طائفة أخرى منهم ابن حزم -الإمام ابن حزم الظاهري أبو محمد - قال: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها).
يعني: لو قيل: أين كانت الروح قبل خلق الجسد؟
صلى الله عليه وسلم لا أحد يعلم، فكذلك إذا مات البدن رجعت الروح إلى مكانها قبل أن توضع في هذا