قال: [عن ابن عباس قال: (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: إنهما ليعذبان -واللام هنا للتوكيد وليست للنفي- ما يعذبان في كبير) يعني: المسائل التي يعذب بسببها أصحاب هذه القبور ليس أمراً عسيراً ولا شاقاً، كان بإمكانهما أن يتحرزا منها وأن يجتنبا سبب هذا العذاب.
[(أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول) وفي رواية: (كان لا يستتر من البول).
أما قوله: (لا يستنزه من البول) أي: يتبول ولا يتطهر ثم ينطلق.
وآلاف من الناس تتنجس ملابسهم وأبدانهم بالبول، فكم من شخص يبول ثم ينصرف، وأعجب من ذلك -والله- أني رأيت منذ شهرين تقريباً أن واحداً بال واقفاً -وكنت في زيارة للإسكندرية- والبول قائماً مخالفة، ثم لم يستنج من بوله، وإنما مسح ذكره بكفه اليمنى -وهذه مخالفة أخرى- ثم مسح كفيه مع بعضهما البعض وأجراهما على وجهه.
فلم أدر من أين أبدأ معه.
ولابد أن تعلم أن الشرع لم يترك لأحد قط أن يتصرف في نفسه أدنى تصرف دون هداية وإرشاد حتى في البول كما في قول اليهود: (لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة).
أي علمنا كل شيء حتى علمنا إذا دخل الواحد منا الحمام ماذا يصنع وكيف يتطهر وبأي شيء يتطهر، فلم يترك شاردة ولا واردة إلا وبين لنا فيها أحسن بيان، فأي دين أعظم من هذا الدين؟ وأي رسول أعظم من هذا الرسول؟ لا أحد ولا شيء قط، فهذا دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده.
وبعض الناس يقول لك: يا أخي! أنا رجل مثلي مثل هذا، فلم أستر نفسي عنه؟ ولعلكم تذكرون أني قلت لكم مرة أني كنت في المدينة المنورة، فرآني أحد الناس في المسجد فألح علي أن أفطر عنده فذهبت تلبية للدعوة، فلما ذهبت لأغسل يدي وجدت أن الحوض خارج الحمام في الصالة، وقد سبقني إلى الحمام والحمام مفتوح على مصراعيه وهو جالس فيه يقضي حاجته، فلما وقع نظري على عورته قلت: أعوذ بالله، ما هذا يا أخي؟ وغضبت غضباً شديداً جداً، فخرج من الحمام وهو غضبان.
قال: ولم نغضب؟ قلت له: غضبان! وهل أنت محتاج أن أقول أنك مخطئ أو ماذا؟ فقال لي: هذا ليس خطأ.
قلت: بل إنك مخطئ.
فقال: ألست أنت رجل؟ قلت: أنا رجل ونصف.
قال: وأنا كذلك رجل فلم تضغب؟ فذهبت إلى الذي سينصرني فقلت له: انظر يا حاج فلان أو يا دكتور فلان، أرأيت فلاناً ماذا قال؟ وهو جالس ينظر إلي باستغراب ويقول: ومم تغضب؟! قلت له: سبحان الله! أهذه المسألة إجماع وأنا المخالف فيها أم ماذا؟! قلت: أهذا صحيح؟ قال: يا أخي! المعذرة وهل بيننا امرأة؟ قلت له: نعم هو امرأة، إنما أنا لا، ألم يكن من المفترض عليها أنها لا تكشف عورتها بهذا الشكل؟ فغضب مني جداً، كيف أنني أقول على الدكتور في الجامعة أنه امرأة! تصور إلى هذا الحد! فانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله) يعني: عند أن يأتي للبول يبول أمام الماشي والآتي.
قال: [(وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)] والمعلوم أن النميمة إنما هي النم والنقل على وجه الإفساد، وهي من الكبائر، فمن علامات الكبائر الوعيد الشديد؛ لأن الناس يتصورون أن الكبيرة معناها أنه لابد أن يقام عليها الحد، وهذا ليس بلازم، كما أن بعض الناس أن علامات الساعة كطلوع الشمس من مغربها من الأمور المحرمة، وهذه أمور كونية ليس لها علاقة بهذا، بل هذه علامات وأمارات للساعة لا يلزم أن تكون حراماً.
فهنا قال: (وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة)، يأتي ويقول لك: إن فلاناً قال عليك كذا، ويذهب إلى فلان ويقول: إن فلاناً قال عليك كذا، فتقع الشحناء والبغضاء بين المسلمين، ولا شك أن هذا باب عظيم جداً من أبواب الكبائر.
قال: [(ثم أخرج جريدة فشقها بنصفين فغرز في كل قبر واحدة.
فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم فعلت هذا؟ قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا)].
السؤال الذي أريد أن أطرحه: لو أن شخصاً وضع جريدة الآن أمام القبر أيخفف عن صاحب القبر من عذاب القبر؟
صلى الله عليه وسلم لا.
لأنه ابتداء لا يدري أهو يعذب أم لا يعذب؟ ولكن الصادق المصدوق صلوات ربي وسلامه عليه علم أن هذان يعذبان، بل علم سبب التعذيب، ثم أطلعه الله تعالى على بعض النجاة لمدة محدودة وهو إشفاق على أصحاب القبور أنه أخذ جريدة وشقها نصفين ثم وضع كل نصف في قبر وهي خضراء.
قال: (لعله أن يخفف عنهما -أي: من عذاب القبر بهذا السبب- ما لم ييبسا) أي: ما لم تيبس هاتان الجريدتان.
فهل لأحد الناس أن يضع جريدة نخل رطبة على القبر؟ لا.
ولكن للأسف نحن نراه اليوم على القبور، فعند أن تدخل القبور تجدها بساتين وعمارات وقصور وفلل! وهذا بلاء عظيم جداً.