[عن أنس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: [(إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه -يعني: ذهبوا عنه- حتى إنه ليسمع خفق نعالهم)] يعني: أصوات نعالهم وهم يمشون، فالميت في هذه اللحظة يسمع حركات وكلام الأحياء حتى يسمع خفق النعال الذي بمثابة الهمس، فإن الميت حينئذ يسمع، ولذلك لما وضعت الحرب في غزوة بدر أوزارها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام إلى قليب بدر -أي: الحفرة التي وضع فيها المشركون وهم قتلى- فوقف على رءوسهم وقال: (يا أهل القليب -وفي رواية- يا أهل بدر) أي: يا من قتلتم في بدر من صناديد الشرك والكفر: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فقام إليه عمر وقال: يا رسول الله! أتخاطب قوماً قد ماتوا؟ فقال: والله ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم)، يعني: هم يسمعونني كما أنكم تسمعونني تماماً بتمام وسواء بسواء.
والجمع بين حديث: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه حتى إنه ليسمع خفق نعالهم) والحديث الآخر: (رأى النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يلبس نعلين سبتيتين ويمشي بين القبور، فقال عليه الصلاة والسلام: يا صاحب السبتيتين ألق عنك سبتيتيك) قال العلماء: السنة ألا يدخل المسلم المقابر وهو منتعل.
وبعضهم قال: بل هذا خاص بصاحب النعلين.
ومنهم من قال: بل هذا خاص بالنعال السبتية دون غيرها.
والصواب: أن المرء يستحب له أن يدخل المقابر وهو حاف غير منتعل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: (ألق عنك سبتيتيك).
وألق فعل أمر، والأمر للوجوب، لكننا لا نقول: إن الأمر هنا للوجوب، وإنما هو للاستحباب؛ لأن الحديث الثاني قال: (وإن الميت ليسمع خفق نعالهم) والمعلوم أن هذا كان في المقابر.
فنقول: هذا الحديث الذي جوز المشي بين المقابر بالنعال ينسخ الوجوب الوارد في قوله: (ألق عنك سبتيتيك)، والمعلوم أن نفي الوجوب لا ينفي الاستحباب.
هذه قاعدة أصولية، فإذا نفينا الوجوب في قوله: (ألق عنك سبتيتيك) يبقى استحباب ألا ينتعل الذي يمر بين المقابر.
قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)].
أول شيء يصنعونه: أنهما يقعدانه، مع أننا ندفن الميت ونهيل عليه التراب حتى نقول: ليس هناك مكان يجلس فيه؛ لأن التراب يحيط به من كل مكان، خاصة لو أننا التزمنا السنة في الدفن، قال عليه الصلاة والسلام: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
واللحد هو أن تشق شقاً في الأرض رأسياً ثم تشق جانبه الأيمن باتجاه القبلة شقاً يسيراً بحيث يسمح بأن ينام الميت على جنبه الأيمن متوجهاً إلى القبلة، ولا يلزم من ذلك أن يكون هذا الشق الثاني أو هذا اللحد عالياً بحيث يتمكن الملكان من إجلاس هذا الميت؛ لأننا نعتقد أن الله تبارك وتعالى إنما يهيئ لهذين الملكين مكاناً عظيماً جداً يجلسان فيه الميت، هذا أمر لا يعجز الله تعالى، ولذلك -يا إخواني- النصوص الشرعية ينبغي أن نتعامل معها بقلوب مؤمنة.
شخص يقول مثلاً: إذا كانت السنة أثبتت أن الأرض بالليل تطوى، وقال عليه الصلاة والسلام: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) فالذي يخاف على نفسه إنما يبدأ السير من أول الليل.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (فإن الأرض تطوى) فكيف تطوى مع أن المسافة من القاهرة إلى المنصورة مائة وعشرين كيلو متر، هل ستصير مائة كيلو مثلاً؟ أو ثمانين؟ فالله أعلم، يمكن تكون أقل من ذلك، يمكن يكون الطي في البركة.
أنت الآن إذا نظرت إلى يومك هذا ويوم ابن تيمية أو الذهبي أو ابن حجر أو غيرهم من أهل العلم هو نفس اليوم، فالشمس تشرق في الصباح وتغرب في المساء، يدخل الليل فإذا انتهى الليل بدأ النهار وهكذا، لكن هل يومك كيوم ابن حجر أو ابن تيمية؟
صلى الله عليه وسلم أن يومك ليس كيومهما أبداً ولا يمكن، وهذه مسألة ينبغي أن تقرر.
إذا نظرت إلى تراث ابن تيمية أو الحافظ ابن حجر تجده مذهلاً جداً، ومن حكم عقله لا يكاد يصدق أن هؤلاء الناس مع صغر سنهم قد ألفوا هذه المؤلفات الكثيرة، فالإمام الشافعي مات عن أربع وخمسين سنة، وعلمه أطبق الأرض شرقاً وغرباً، فمتى تعلم ثم متى صنف ومتى انتشر علمه؟ أمر عجيب جداً.
نحن الآن نبلغ من العمر خمسين سنة ولا نعرف ماذا كتب الشافعي فضلاً أن نكون قد تعلمنا علمه وصنفنا فوق علمه علماً آخر.
فإذا أخبر الله تعالى أو أخبر رسوله بأمر يتعلق بالغيب فإنه لا مجال للعقل فيه ألبتة، ويجب على العقل أن يقول: سلمنا وآمنا، سمعنا وأطعنا أما غير ذلك فلابد أن يئول أمره إلى الحيرة والتيه والضلال.
قال: [(أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له)] أول شيء: يرد إليه الروح التي نزعت منه وقت الغرغرة، فإنها ترد إليه مرة أخرى.
ثم يقعد فيقولان له: [(ما كنت تقول