الحدود إما القتل في القصاص، أو قطع اليد قصاصاً، أو الرجم -وهو أشدها- في الزنا، أو الجلد في الزنا والتغريب فيه، وقطع اليد في السرقة، والجلد في القذف وفي السكر، والقتل وما معه في قطع الطريق، هذه هي الحدود وما أشبهها، ويكون هناك باب أيضاً في التعزير، وهي العقوبات في حد لا يصل إلى الذنب الذي فيه عقوبة مقدرة، فهذا الكتاب فيه باب الرجم، وفيه باب الجلد، وفيه باب التغريب، وفيه باب حد المسكر، وحد القذف، وقطع اليد في السرقة، وحد قطاع الطريق، وحد البغاة، وحد المرتد، وهذه الحدود كلها تحت هذا الكتاب.
وإذا ثبت الحد الذي هو الجلد فإنه [يضرب رجل قائماً بسوط لا خلق ولا جديد، ويكون عليه قميص أو قميصان، ولا يبدي ضارب إبطه] هكذا ذكروا، فالرجل إذا جلد في الزنا أو في الخمر أو جلد في القذف فإنه يضرب وهو قائم، ومن العلماء من أجاز أن يضرب وهو مضطجع على بطنه، ولكن كأنهم اختاروا أن يضرب وهو قائم.
والآلة التي يضرب بها تكون من عصا، ولا تكون قوية شديدة تشق جلده أو تعطل عليه بعض المنافع، ولا تكون خلقة لا تؤثر فيه، بل تكون وسطاً، روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد جلد رجل، فجيء بسوط جديد فقال: (دون هذا) ، فجيء بسوط رديء فقال: (فوق هذا) ، يعني أنه لا يشدد عليه بالسوط الجديد الذي قد يؤدي إلى قتله، وكذلك لا يضرب بالسوط الرديء الذي لا يؤثر فيه، بل يكون السوط وسطاً، والسياط قديماً تؤخذ من العصي كجريد النخل، فإذا كان متيناً يؤثر عليه، وإذا كان دقيقاً كرأس العسيب ونحوه لا يؤثر، وأما إذا كان متوسطاً فإنه الذي يؤثر ولا يضره، أي: لا يمته.
وتعمل السياط اليوم من السيور، أي: سيور الجلد ونحوه، وكذلك من الحبال أو من الخيوط يعملون سوطاً يفتلون بعضه في بعض، ثم بعد ذلك يجلدون به ذلك المجرم؛ لأنه الذي يكون ليناً بحيث يلتوي على جلده وظهره أو على فخذيه أو ما أشبه ذلك.
[ولا يجرد] يعني: لا تخلع ملابسه حتى يبدو جلده، ولكن يكون عليه قميص أو قميصان من هذه الثياب العادية من القطن ونحوه؛ لأنها لا تمنع وصول الألم إلى جلده.
[ويمنع أن يكون عليه عباءة غليظة] وكذلك ثوب غليظ، كما يسمى بالكوت ونحوه؛ لأن هذا قد لا يوصل الضرب والألم إلى جلده.
ثم الضرب يكون وسطاً ليس شديداً ولا ضعيفاً، وحددوه بأنه إذا رفع يده لا يرى إبطه، فالضارب يضرب ولا يرفع يده كثيراً، بل يرفعها ثم يجلد، ولكن يتفاوت الضرب وتتفاوت العقوبات، فمثل الزنا يشدد عليه، قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] يعني: لا ترحموه؛ فإن ذنبه كبير.
ومعنى ذلك أنكم تشددون عليه، فلا ترحمونه، (ولا تأخذكم بهما رأفة) لا تأخذكم بالزاني رأفة فتخففوا عنه الجلد.
ونرى بعض الجلادين لا يحرك إلا كفه، فمثل هذا لا يؤثر، وبعضهم يشدد فيرفع يده كلها على نحو مترين ثم يضرب بقوة، وهذا شديد أيضاً قد يشق الجلد، فالجلد في الزنا يكون شديداً ولكن ليس إلى الشدة في النهاية.
{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] .
وأما الجلد في القذف فهو دون الجلد في الزنا، وكأنه أخفها، فالجلد في القذف أخف حدود الجلد، وأما الجلد في السكر فيكون وسطاً بين جلد القذف وبين جلد الزنا.
يقول: [ويسن تفريقه على الأعضاء] .
إذا كان قائماً يضرب ظهره وكتفيه وعضديه، ويضرب أسفل ظهره، ويضرب فخذيه وساقيه، ويضرب طولاً وعرضاً، وكذلك أيضاً يضرب فخذيه من الأمام والخلف، وساقيه من الأمام والخلف، وإليتيه من الخلف، وظهره كله وكتفيه، يفرقها على الأعضاء.
قال: [ويجب اتقاء وجه ورأس وفرج ومقتل] .
وذلك لأن هذه قد يؤثر فيها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قاتل أحدكم فليجتنب الوجه) يعني: لا يضرب الوجه.
ولأن الوجه فيه الحواس، فيخاف أن يقضي على سمعه وبصره ولسانه وفمه وعلى أنفه، فيظهر أثر ذلك، ويفوّت عليه بعض الحواس، فلا يجوز الضرب في الوجه، وكذلك الرأس، ولو ضرب الرأس فقد يسبب موتاً، سيما إذا كان الضرب شديداً، وكذلك لا يضرب الفرج والقبل، أما الدبر فإنه يضرب الإليتين، فلا يضرب الفرج الذي هو القبل من رجل أو امرأة.
ويتجنب المقاتل، فلا يضرب رقيق البدن، وكذلك البطن مثلاً، فلو ضرب بسوط شديد لأتلفها أو شق جلد البطن أو نحو ذلك، وكذلك القلب لو ضربه فوق قلبه أو مقابل كليتيه لعطلهما، فلذلك لا يضربه في المقاتل.
قال: [وامرأة كرجل] .
يعني: إذا وجب عليها الجلد فإنها تجلد كما يجلد الرجل في الزنا، والقذف، والسكر، لكن تضرب جالسة؛ لئلا تتكشف، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها، أي: تربط يداها؛ فإنها لو ضربت وهي قائمة لأوشك أن بعض الجلدات تكشف الثوب عن بعض جسدها فتتعرى، بخلاف ما إذا كانت جالسة، فإذا كانت جالسة يكون الجلد على الظهر والعضدين وأسفل الظهر، وتضرب أيضاً من الأمام على الساقين، أو تضرب من الجانب الأيمن على الحقوين والفخذ ونحو ذلك، ويفرق الضرب والجلد عليها.
وتشد عليها ثيابها لئلا تتكشف، أي: تشد من الأسفل ثيابها إن كانت قميصاً أو نحوه، ويشد الخمار على رأسها ووجهها، وأكمامها تربط حتى لا تتكشف ولا ينحسر شيء من ثيابها، وتمسك يداها بخيط إلى رقبتها حتى لا تمد يديها.
قال: [ولا يحفر لمرجوم] .
إذا أريد أن يرجم فإنه لا يحفر له قبر، بل يترك على وجه الأرض ثم يرجم، ويرى بعض العلماء أنه يوثق، يعني: تربط رجلاه حتى لا يهرب.
قال: [ومن مات وعليه حد سقط] .
يعني: ثبت الحد عليه، وقبل أن يقام عليه الحد مات، فلا يقام على أولاده؛ لأنهم ما أذنبوا، ولا على أحد من ورثته، وهل يجلد بعد أن مات؟! لا، سقط عنه الحد.
وأما لو مات تحت السياط فلا دية له، فإذا أقيم عليه الحد ومات بسبب الجلدات التي يجلد بها فليس هناك دية على الجلاد؛ لأنه حق، ورد في عبارة الفقهاء أنهم ينقلون ذلك عن بعض الصحابة: (من مات بحد فالحق قتله) .