...
الفصل الثالث أمور تتعلق بالأخلاق
المبحث الأول: بين المدارة والمداهنة
"حدود الفضائل تقع بمقربة من أخلاق مكروهة، وهذه الحدود في نفسها واضحة جلية، إلا أن تمييز ما يدخل فيها مما هو خارج عنها يحتاج إلى صفاء فطرة، أو تربية تساس بها النفس شيئا فشيئا.
وكثيرا ما يتشابه على الرجل لأول النظر أمور، فلا يدري أهي داخلة في الفضيلة أم هي خارجة عن حدودها.
وربما سبق ظنه إلى غير صواب، فيخال ما هو من قبيل الفضيلة مكروها فيدعه، أو يعيب غيره به، أو يخال ما هو من قبيل المكروه فضيلة فيرتكبه، أو يمدح غيره عليه"1.
وهذا الشأن يجري في كثير من الأخلاق، ومن ذلك خلق المداراة؛ إذ يشتبه عند كثير من الناس بخلق المداهنة مع أنه يمتاز عنه امتياز الصبح من الدجى.
وبما أن الحديث في هذا الكتاب عن الأخلاق، وبما أن المداراة خلق فاضل يحتاجه العاقل في حياته، وبما أن المداهنة خلق دنيء يزري بصاحبه، وينزل به إلى درك وسقوط ـ فإن معرفة المداراة وتمييزها عن المداهنة من الأهمية بمكان؛ حتى يسلك العاقل طريق المداراة، وينأى بنفسه عن طريق المداهنة.