القسم الثالث من أقسام الهداية: أنها تكون بمعنى البيان قال الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهِدي إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) المراد بها في حق النبي صلى الله عليه وسلم البيان الحامل على اعتقاد الحق حقا، والباطل باطلا. واعلم أن القسمين الأولين لا يقعان من غير الله تعالى الهادي هو الله: قال الله تعالى: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي لا تخلق الهداية في قلب من حجبت عنه، ولكن الله يهدي من يشاء.
اللهم اهدنا فيمن هديت. انتهى كلام الشيخ.
قال الله تعالى: (قُل لِّلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصاَرِهِمْ وَيَحْفَضُواْ فُرُوجَهُمْ)
قال القرطبي في الغريب المنتقى: اعلم أن رأس حواسك الموردة للخواطر عليك، والتي تكاد أن تدل عليك بلا نطق، وتفصح عن نيتك بلا كلام، وتكاد أن تقود سائرها من جميع جوارح بدنك حاسة النظر، إذ مقامه في البدن مقام الشمس في الدنيا، وهي الحاسة التي تدرك محسوسها أبداً بلا زمان، أعنى أن إدراكها ما قرب منها بسرعة كإدراكُها ما بعد منها، وليس بين إدراكها القريب والبعيد زمان، وسائر الحواس تدرك بزمان، ويعدم الإدراك بعدمها المحسوس، فكما أن العين رأس الحواس كذلك رياضتها بإحكام ألحاظها، وذم تحديقها، وتدبير التماحها من أكرم الحركات العابرة إلى الرياضة المحمودة، والدالة على شرف النفس، وكرم الهمة.
إهمال رياضتها وما يترتب عليه: وبحسب ذلك يكون إهمالها وإيقاع شعاعها على مالا يحل ولا يحمد من أقبح الحركات المبعدة عن الخير، القائدة إلى الزلل الدالة على دناءة النفس ونذالة الهمة. فاجعل تعاهدك على ما توقع عليه نظرك من أول أفعالك التي تبتدئ إصلاحها من نفسك. واعلم أنها أخوف حواسك عليك، وأقربها إلى الإِستيلاء على عقلك، إذ في محسوسها جمال الصور، وحسن الأجسام، وملاحة الحركات، ورونق التراكيب، وأصبغة الوجوه وديباجات الوجوه التي هي أفتن المحسوسات بجمالها، وأوبقها مدخلا إلى القلوب وأقربها وسيلة إلى النفوس، ولذلك كثيراً ما يحتاج العباد إلى اعتزال الجماعات، والهرب عن الخواطر.
إياك وخداع الشيطان! فاحذر في هذا الباب أن يخدعك الشيطان فيعزل الصبر من نفسك، ويصرم لك القوة في عزمك، فيجعل عندك مادة النظر والتحديق إلى مالا يحل، والتماح اعتبار مالا يجوز اعتباراً في خلق الله - عز وجل -، والتعجب بعجيب بنيته، وأنيق تركيبه، فيدرج مخادعاً لك إلى ما يمكن به الفتنة من ناظرك، ويرسخ موقعها من قلبك.
الصغائر تؤدي إلى الكبائر: فإن غفلت قليلاً ممكناً له من ناظرك، أوقعك - لا محالة - إما في مقاتلة من كنت غنيا عن الاشتغال بمقاتلته من نوازع شهوتك، وإما في الانقياد لها، ومتى صيرت إلى لجج من الفتن لا غاية لها ولا نهاية، إذ العين غير شابعة من النظر، وفعل شهواتها كفعل النار التي هي محسوسها ما زيدت حطباً زادت لهباً.
كيف الفرار؟ وإنما الاحتراز من المكروه بالتحفظ من أول أسبابه، والترفع إلى كل جميل مثل الانحدار إلى كل قبيح، ودرجات نزول أولها قريب مما يليها صاعداً كان أو هابطاً. وأنفع ما يكون الحزم والنظر في تمييز الأسباب التي عنها تتولد الأمور، فأما تميز الأمور في منتهاها فكذلك ما لا يخفى على جاهل فكيف على عالم.
نفسك تلومك! واعلم أنها قد تورثك البطالة وتؤديك للبلادة، بإطالة التحديق على ما لا يعنيك، والنظر إلى ما لا ينفعك، وكذلك أيضاً قد تحكم عليك في بعض الحالات بالسخافة وتلومك الندالة في مثل الالتهاء في كل سمج، والنظر إلى كل قبيح، وكذلك أيضاً قد تشهد عليك في بعض الحركات بالكبر والعجب، وفي بعضها بالورع والتواضع.
زمام الأمر في يدك! فألزمها أفضل الحركات التي تمدحها في غيرك، والبسها أجمل الثياب التي تستجملها على سواك، فافهم المواضع التي يجب عليك فيها غضها مما تشتهي النظر أليه، والتي قد يجب عليك صرفها إلى معاينة ما تستعمله، وأي المناظر الأنيقة يورثها اعتبارا، وأيها يورثها افتناناً، وأي المناظر السمجة يكون إقبالها علماً وتبتلا، وأيها يكون ذلك فيها سخفاً وتسفلاً.
ماذا لو غضضت بصرك؟