ومن الواقعية التي رفعها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المستوى الأخلاقي أنه قبل من الجنود في المعارك أن يقارنوا بين المثالية في الإقدام، والواقعية التي تُحتِّم الانسحاب عند الضرورة. فالمسألة توزن بميزان الحكمة، وليس بميزان الشجاعة فقط. فالقائد العبقري خالد بن الوليد - سيف الله - رأى أن استمرار المعركة في غزوة مؤتة أمام جيوش الروم وهو ثلاثة آلاف مسلم أمام مائة وخمسين ألفا من الروم، استمرار المعركة لون من المغامرة الخاسرة، فاحتال للانسحاب.
وفي المدينة لقيهم (المثاليون) من الشباب المتحمسين للشجاعة، مهما كان الثمن، التقوا معهم يرمونهم بالحصى، ويصفونهم بالفُرَّار.
ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - دافع عنهم، واعتبر عملهم حنكة حربية وقال "بل هم الكُرَّار - إن شاء الله -".
يقول أستاذي الدكتور يوسف القرضاوي:
إن القرآن يجيز للمقاتل أن يفرَّ من الزحف، إذا كان "مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ". ويُرخّص له في حالة الضعف أن ينسحب من المعركة، إذا كان جيش العدو أكثر من ضعف المسلمين {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (سورة الأنفال 66)
كانت الآيات التي قبلها تطلب ثبات الواحد من المسلمين أمام عشرة من المشركين {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} (سورة الأنفال 65)
والمسافة الزمنية بين الآيتين كبيرة - كما قال الكشَّاف.