ثم أنزل الله جل وعلا عليه قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28 - 29] وهذه الآيات تسمى آيات التخيير.
وقول الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] تسمى آية الكرسي.
وقول الله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة:1] تسمى آية المجادلة.
وقول الله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} [آل عمران:61] تسمى آية المباهلة.
وقول الله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] تسمى آية السيف.
وقول الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة:282] تسمى آية المداينة، أو آية الدين.
فهذه الآيات تسمى آيات التخيير، وهي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب:28].
النبي صلى الله عليه وسلم من كمال بشريته أنه شخص واضح جداً في حياته، فقد اختار عليه الصلاة والسلام أن يعيش مسكيناً، وأن يكون عبداً، ولم يختر أن يعيش نبياً ملكاً، فهنا لم يجبر نساءه على حياته، وإنما عمد بأمر له إلى التخيير، وكلما كان الإنسان واضحاً مع الناس كان أقدر على أن يسير معهم، ولا ينبغي أن يلوم أحدٌ أحداً على وضوحه.
فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم في التخيير بـ عائشة، فقال: (يا عائشة! إني سأعرض عليك أمراً فلا تعجلي علي حتى تستأمري أبويك، فقالت: يا رسول الله! أفيك أستأمر أبوي)، ثم أخبرها، فاختارت رضي الله عنها وأرضاها البقاء معه صلى الله عليه وسلم، على الحال التي هو فيها، واختارها لأن يعيشها عليه الصلاة والسلام.
قال بعض العلماء: لماذا طلب النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة أن تستأمر أبويها مع أن الأصل في مثل هذه المسائل أن ليس للأبوين فيها علاقة؟ قالوا: وهي لطيفة جيدة: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة، فخاف أن يغلب عليها فرط الشباب، فتختار الاختيار الثاني، فأرشدها إلى أن تستأمر أبويها لعلمه أن أبويها سيرشدانها إلى أن تبقى مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها لم تحتج إلى أن تستأمر أبويها، وكانت تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حباً عظيماً؛ فلم تستأمرهما، وإنما أجابت سريعاً، وهي ذكية من أذكى النساء، فقالت: (يا رسول الله! -والمرأة تبقى امرأة ولو كانت أم المؤمنين- لا تخبر زوجاتك بما أنا أجبتك)، يعني: لا تقل لهن: إنني خيرت عائشة وبدأت بها فاختارتني، فربما هي تريد أن تقل النساء مع النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تحضى لوحدها به صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لم يبعثني متعنتاً ولا معنتاً، وإنما بعثني معلماً ميسراً، فمن سألتني عنك أخبرتها)، وهذا جواب في منتهى البلاغة والأدب، وحسبك أن ترى محاضرة ما بين خير الخلق وسيد الأمة وإمام الملة صلى الله عليه وسلم وامرأة في مقام عائشة، فتخرج بفوائد لا حصر لها، لا يكذب أحدهما، وإنما كلاً منهما بأدب جم وعبارة ذكية، ولطف في الخطاب يصل إلى مراده.
فخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترن جميعاً البقاء معه، والسؤال هنا تأريخياً: من هن المخيرات؟ أولاً: كم كان عددهن؟
صلى الله عليه وسلم تسع: خمس قرشيات، وأربع غير قرشيات.
الآن ندخل في سياحة تأريخية، أولى القرشيات عائشة، وأبوها أبو بكر من بني تيم، رغم أن بني تيم لم يكن لهم صيت في قريش.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود لكن أخرج الله منهم هذا الصديق، فوزن الأمة كلها، لا قريش وحدها رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: فـ عائشة قرشية من بني تيم؛ لأن المرأة تنسب لأبيها، وأبوها رضي الله عنه من بني تيم.
القرشية الثانية: حفصة بنت عمر، وعمر من بني عدي.
القرشية الثالثة: رملة، أم حبيبة بنت أبي سفيان، وهذه قرشية من بني أمية.
القرشية الرابعة: أم سلمة من بني مخزوم، واسمها هند، رضي الله عنها وأرضاها، وبنو مخزومٍ من قريش، ومن مشاهيرهم: الوليد بن المغيرة، وخالد بن الوليد، وأبو جهل، فهؤلاء أربع قرشيات، والخامسة سنؤخر ذكرها.
نأتي لغير القرشيات، الأولى: جويرية بنت الحارث، فهذه خزاعية من بني المصطلق.
والثانية: ميمونة بنت الحارث، وهي هلالية من بني هلال، وليست من قريش.
والثالثة: صفية بنت حيي لها نسبان، فهي صفية بنت حيي بن أخطب النغيرية الهارونية، تنسب إلى هارون بن عمران، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنك ابنة هارون)، فهي نغيرية هارونية.
فالآن مضى معنا من غير القرشيات: جويرية، وميمونة، وصفية.
والرابعة: زينب بنت جحش، وهي غير قرشية بل أسدية.
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على إحدى عشرة امرأة، اثنتان ماتتا في حياته، وهما خديجة وزينب بنت خزيمة الهلالية، ومكث مع الأخيرة ثمانية أشهر، فالباقي تسع، وهن اللاتي خيرن، واللاتي توفي النبي صلى الله عليه وسلم عنهن.
أما الخامسة من القرشيات فهي سودة بنت زمعة رضي الله عنها، وهي عامرية قرشية وقد أخرنا الكلام عنها حتى نتفرغ للحديث عنها.
فـ سودة رضي الله عنها كانت بدينة جداً، وهي التي تنازلت عن ليلتها لـ عائشة، فلما أنزل الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم تخرج، لا لمسجد، ولا لحج، ولا لعمرة، وإنما من بيتها إلى قبرها في خلافة عمر، فلما سئلت كانت تقول رضي الله تعالى عنها وأرضاها: إنا أمرنا بأن نقر في بيوتنا، قال الله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33].
إذاً: فهؤلاء اللاتي خيرن من نساء النبي صلى الله عليه وسلم التسع، وقلنا: إن زينب بنت خزيمة لم تلحق التخيير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمكث معها إلا ثمانية أشهر، وخديجة من أول نسائه موتاً رضي الله عنها وأرضاها.