ثم قال الله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [الأحزاب:27]، وهذا واضح، فمنازل بني قريظة ومزارعهم بما كان فيها من مواشي من ثاغية وراغية، كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
ثم قال الله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
أي: وأورثكم أرضاً لم تطئوها.
كلمة (أورثكم) تدل على أنه حصل، وكلمة (لم تطئوها) تدل على أنه لم يحصل بعد، مثل قول الله جل وعلا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل:1] ثم قال الله بعده: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وهذا يدل على أنه لم يأت؛ لأن الأمر إذا أتى وانقضى لا يقال له: فلا تستعجلوه.
فقول الله جل وعلا: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب:27] وتعقيبه جل شأنه بقوله: {لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] يدل على أن الأرض لم يحتلها أو لم يملكها المسلمون بعد؛ لأن الله قال: {لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27].
وقد اختلف العلماء فيما هي هذه الأرض، أي: أي أرضٍ عناها الله جل وعلا بقوله: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27]؟ فقيل: هي مكة، وهذا مروي عن قتادة، وقيل: هي أرض فارس والروم، وقيل: هي كل أرض فتحها المسلمون إلى يوم القيامة، وهذا قول عكرمة واختاره أبو حيان، فهذه ثلاثة أقوال، والذي يترجح عندي هو القول الرابع ولم أقله، وهو أنها أرض خيبر؛ لقرينتين: القرينة الأولى: لقرب معركة خيبر من معركة الخندق زمناً، وهذه القرينة ليست هي القرينة القوية.
القرينة الثانية والأقوى: أن الله يتحدث عن أرضٍ كان يسكنها اليهود، وخيبر أرض كان يسكنها اليهود.
فهذا الذي جعلنا نرجح -والعلم عند الله- أن المقصود بقول الله جل شأنه: {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب:27] أرض خيبر، وقد حكيت لك أقوال أهل العلم رحمهم الله.
ثم قال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب:27] إلى هنا انتهى الحديث عن سياق معركة الأحزاب.
وأفاء الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم من بني قريظة الشيء الكثير، ومن هنا فهم بعض أجلاء أهل التفسير أن أمهات المؤمنين لما رأين النبي عليه الصلاة والسلام قد أفاء الله جل وعلا عليه ما أفاء من بني قريظة، أصبحن يسألنه النفقة والتوسع فيها بكثرة.
فجاء في الصحيح أن أبا بكر استأذن فلم يؤذن له، واستأذن عمر فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينها صامتاً، فأراد عمر أن يدخل السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (لأضحكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! لو رأيت ابنة خارجة -يقصد زوجته- وهي تسألني النفقة فوجأت عنقها، فضحك صلى الله عليه وسلم، فقال: هن حولي -أي: نساؤه- يسألنني النفقة)، فاعتزلهن النبي صلى الله عليه وسلم في مشربة له شهراً، وكان ذاك الشهر تسعة وعشرين يوماً.