قال سبحانه: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].
إن من الأمور المطلوبة تصور الأشياء تصوراً كلياً يعين على فهمها، فهذه الآية تتحدث عن حد الزنا.
وقبل أن أشرع في الحديث عن تفسير الآية أؤصل للمسألة فأقول: إن الإسلام جاء بحفظ الضرورات الخمس: الدين والعقل والمال والنفس والعرض.
ثم شرع حدوداً تحفظ هذه الضرورات الخمس، فبحد السرقة يحفظ المال، وبالقصاص تحفظ الأنفس، وبحد الزنا والقذف تحفظ الأعراض، وبحد السكر يحفظ العقل، وبإقامة هذه الأربع جميعاً يحفظ الدين، هذا التحرير الأول.
والحد: عقوبة مقررة شرعاً في معصية استيفاءً لحق الله جل وعلا، ويجري معه في ذلك القصاص، ولكن ثمة فارق بين القصاص وبين الحد، فالقصاص ترك الله جل وعلا أمره لأولياء الدم أو الجناية، فلا يصبح وضع ولي الأمر إلا التنفيذ، فلو أن رجلاً قتل رجلاً فإنه يتعلق بقتل ذلك الرجل ثلاثة حقوق: حق لله العلي الكبير، وهذا الحق يسقط بالتوبة.
وحق للمقتول عينه، وهذا الحق لا يسقط أبداً، ويستوفى يوم القيامة.
وحق لأولياء الدم، وهذا هو الذي يدور كلام الفقهاء في فلكه.
فأولياء الدم مخيرون بين القصاص والقبول بالدية زادت أو نقصت بحسب التراضي، أو العفو، فيصبح دور ولي الأمر هو تنفيذ القصاص، أو إجراء آلية قبول الدية.
وأما الحدود فتختلف عن القصاص في هذا المعنى، ونحن أن الحدود حق لله لا تسقط بعوض ولا بدون عوض، ولا تجوز الشفاعة فيها، بينما تجوز الشفاعة في القصاص، ونحن نسمع أنه قد يأتي ثري أو وجيه إلى أولياء الدم فيرضيهم بأموال تزيد على الدية رغبة في حفظ دم آخر، فهذا يجوز شرعاً؛ إذ يقول ربنا جل جلاله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178].
وأما الحدود فهي في منأى عن هذا، فلا حد الزنا ولا حد القذف ولا حد السكر ولا حد السرقة يدخل في شيء من ذلك، بل يجب استيفاء تلك الحدود إذا رفع الأمر إلى السلطان، ولا تجوز الشفاعة فيها.
فهذا التمهيد موطأ ممهد مهم قبل أن نشرع في فهم الحدود.
والحد المذكور في هذه السورة هو حد الزنا، والزنا أمر معروف، وإن من أكبر المعضلات توضيح الواضحات.
والله تعالى لم يعرف الزنا؛ لأن الزنا معروف، ولم يعرف القتل؛ لأن القتل معروف من قبل أن ينزل القرآن.