تفسير قوله تعالى: (قال اهبطا منها جميعاً إن في ذلك لآيات لأولي النهى)

قال الله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124]، ضيق في العيش يكون في الحياة الدنيا، فلا يشعر بلذة ما هو فيه لو كثر أمواله وأولاده.

{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} [طه:124 - 125]، وقد ذكر الله أنهم يحشرون عمياً وصماً وبكما: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا} [طه:126]، أي: بتركها {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126] أي: بأن تترك، وإلا فإن النسيان لا يجوز على الله تعالى، لكن هذا يسمى عند البلاغيين: مشاكلة.

قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127]، وهذه ظاهرة المعنى وقد مرت معنا كثيراً.

ثم أمر الله بالتدبر فيما سبق فقال: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128] والخطاب في المقام الأول لكفار قريش، يقول الله عن قوم لوط وحجر وصالح: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} [الحجر:79]، وقال: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، ما زالت آثاراً باقية تدل على أصحابها حتى يتعظ الخلق وحتى يتنبه من كتب الله جل وعلا له النجاة، ولهذا قال تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:128].

وقد مر معنا أن كلمة (أولي النهى) لم ترد في القرآن إلا مرتين كلاهما في سورة طه: هذا موضع، والموضع الذي قبله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى} [طه:54]، ذكر الله جل وعلا إنزال المطر من السماء، وأخبر أن في ذلك آيات لأولي النهى.

وهنا تكرر نفس المعنى، وأولو النهى هم أهل العقول، وهذا يدل على أن الإسلام عني كثيراً بالعقل البشري، ومن أعظم الدلائل على عناية الإسلام بالعقل أن الله جل وعلا ذكر العقل مغيباً ومؤقتاً ومغيباً تغيباً جزئياً، فالمغيب كلياً يسمى: مجنوناً، والمغيب عارضاً هو النائم، والمغيب المؤقت هو الصغير الذي لم يصل عقله إلى النضج، وفي كلا الثلاثة الأحوال رفع الله قلم التكليف.

إذاً: مناط التكليف هو العقل، والعقل أصلاً يدل على وجود الله، لكن لا تقوم الحجة بالعقل وحده.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015