لقد مر معنا في تفسير سورة القلم أن السجود من أعظم ما ينال به العبد عظيم اليقين، وهذه الأحداث شاهدة على ذلك، قال الله جل وعلا على لسان السحرة لما هددهم فرعون -وهذا كله في أرض الموقف أرض المجادلة- قالوا له بعد أن قال: {وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:71 - 72]، فألقى الله جل وعلا في قلوبهم الإيمان واليقين ووجدوا حلاوته، رغم أنه ليس لهم أياماً ولا شهوراً ولا أعواماً في الطاعة والإيمان والعمل الصالح، لكن تلك الحظوة الألهية نالوها ببركة سجودهم، حتى يعلم أثر العمل الصالح على قلب العبد، ثم ردوا عليه بطريقته كما كان يطلق الأفعال على صيغة الأمر، قالوا له: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} [طه:72]، أي: فافعل ما شئت، ثم بينوا له ضعفه فقالوا: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، قد يكون الله أعطاك سلطاناً على الدنيا، لكن ليس لك سلطان على حياتنا في الآخرة والدنيا، وسواء قضيت علينا أو لم تقض علينا فمردنا أصلاً إلى الموت فلا نخوف بشيء، لكن العبرة بالحياة الأخروية {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72]، وجاءت (الحياة) بالنصب لأنها بدل من اسم الإشارة (هذه).
وهذا قاعدة نوحية تأتي دائماً: كل اسم معرف بـ (ال) بعد اسم الإشارة فيعرب بدلاً عنه، فما يقال في إعراب اسم الإشارة الذي قبله يقال في إعراب الاسم الذي بعده، وهذا نظيره: ((إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ)) مفعول به، ((الْحَيَاةَ)) بدل من (هذه).
ثم قالوا له: {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، وعبارة الإكراه هنا مأخوذة من أن فرعون سول لهم هذا الأمر بأن مناهم ووعدهم وقال: {وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:42]، فاعتبر هذا شرعاً نوع من الإكراه، قال الله جل وعلا: {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} [طه:73]، ثم قارنوا بين ربهم وبين فرعون فقالوا: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، ولا ريب أن الله خير وأبقى.
وهذا منهاج للمؤمن في كل ما يأتيه، فلا يكن في شيء يتعلق بالله وفي شيء يتعلق بمخلوقاته، فثق أن ما عند الله جل وعلا خير لك وأبقى، وهذه من الطرائق التي ربى الله جل وعلا بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وهذبهم بها، وثبت قلوبهم جل وعلا بها، أنه أعلمهم أن الآخرة هي الباقية، وهي التي يعمل الخلق لها، قال صلى الله عليه وسلم لما رأى الأنصار والمهاجرين يبنون المسجد: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للأنصار والمهاجرة).
وهذا أمر يستحضره المؤمن، وتعلمون قصة العلامة الألباني رحمه الله لما بشر بفوزه بجائزة الملك فيصل العالمية أراد بعض الصحفيين أن ينال حظوة عنده بأن يجري له مقابلة صحفية، ومعلوم أن جائزة الملك فيصل جائزة عالمية يرقبها كل عالم سواء في خدمة الإسلام أو في غيره، فلما بشر بها قال الشيخ وهو يبكي هاتفياً: {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]، وقال: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى} [الضحى:4].
فمهما أعطي الإنسان من الدنيا ينبغي عليه أن يستحضر هذا الأمر العظيم، وأن ما عند الله خير وأبقى، حتى لا يفتن بما أعطاه الله جل وعلا إياه في الدنيا.