عبر الله عن الزوجة هنا في قصة موسى بكلمة (الأهل)، وهو أفضل ما يعبر به عن الزوجة في قضايا الائتلاف، في المحاكم والقضاء وشئون الحقوق يقال: زوج وزوجة، وفي وقت الائتلاف -لا فرق الله لنا ولكم شمل- يعبر بالأهل، وقد جاء أن بعض الصحابة والصحابيات لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن عائشة في حادثة الإفك قالوا: (يا رسول الله! أهلك، ولا نعلم إلا خيراً)، فما قالوا: زوجتك، وبعض الإخوة إذا أراد أن يكتب رمزاً لهاتف جوال زوجته في جواله يكتب: الأهل، اتباعاً للقرآن، لا يكتب: أم فلان، ولا يكتب عبارات مبالغ فيها ومغالى فيها، وإنما يكتب: الأهل؛ لأن هذا تعبير القرآن وتجده يقول: أنا أريد أن أذهب إلى أهلي، سأوصل أهلي، اتصل بي أهلي ونحو ذلك، وليست القضية قضية حساسية مفرطة ممن حولنا، إنما القضية في المقام الأول أن مما يفتح الله به عليك في فهم القرآن أن تحاول أن تستخدم أسلوب القرآن: {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} [طه:10]، وقد مر معنا أن العلماء قالوا: إن موسى عليه السلام قال: (لعلي) من باب الاحتراز، وهذه قضية عامة، يقولون: إن أهل العقل لا يضعون أقدامهم اليمنى حتى يجدوا موطئاً لليسرى، ويفكرون في طريق الرجوع قبل أن يفكروا في طريق الذهاب، والعاقل لا يقطع الحبال كلها عن نفسه وإنما يجعل له طريق عودة، وهذا هو الذي قصده موسى بقوله: ((لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ))، و (لعل) في القرآن على بابها إلا في موضع واحد، بمعنى: لعل عند النحويين حرف يفيد الترجي، حرف يستخدم للرجاء ويستخدم في الغالب فيما يرجى وقوعه.
ويقولون في حرف ليت: إنه حرف للتمني، وهي قرينتها في العمل، إلا أن ليت فيما لا يرجى في الغالب وقوعه، ومنه قول الشاعر: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب والشباب لا يعود، فعبر بليت؛ لأنها للتمني.
فلعل في القرآن على بابها إلا في موضع واحد في سورة الشعراء، قال الله جل وعلا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:128 - 129]، فلعل هنا ليست للترجي وإنما هي بمعنى: كأنكم تخلدون، أو كأنما تخلدون؛ لأن الموت اتفق الناس على أنه لا يدفعه شيء، حتى أهل الكفر مؤمنون بالموت، ولذلك لا يوجد موطن سكن إلا وفيه مقبرة، وهذا في كل مكان في الدنيا، فلم يقل أحد: أن تشييد البناء والمبالغة فيه يدفع الموت، لكن بعض الناس يشيد بناءه وكأنه لن يموت، كأنه مخلد، وهو يعلم أنه غير مخلد، وهذا معنى الآية: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129].
ومما يستفاد من هذه الآيات أن الذين حولك أحوج ما يكونون إلى الأمن، والإنسان إذا أعطي الأمن يعطى القدرة على العطاء، أما إذا شعر الإنسان بالخوف فإنه غالباً غير قادر على العطاء، قال الله تعالى في حق أهل الكفر: {فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] أي: أشعره بالأمن: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]؛ لأنه لن يستطيع أن يسمع كلام الله ويفقهه عنك وهو خائف وجل، والسيف إذا وضع على أي رقبة في أي إنسان يجعله لا يعقل، ويذكر المؤرخون أن أحد الخلفاء -من دون ذكر أسماء- من الخلفاء السابقين في عهد بني أمية أتي برجل صالح ومعه زمرة من أصحابه حوالي عشرة كانوا قوماً صالحين، وهذا الزعيم فيهم كان مشهوراً بثبات جأشه وفصاحة لسانه، فقال له الناس في ذلك الموضع: تكلم قل، قال: ماذا أقول؟ سيف مشهور، وكفن منشور، وقبر محفور، من أين سيأتي كلام؟ وهو محق، أي: أن الخوف والوضع الذي أنا فيه لا يساعد على أن أتكلم، ولهذا لما أراد الله أن يفيء على موسى بعظيم العطايا وجزيل المواهب -ومقام التكليم مقام لا يمكن تخيله، والله كلم موسى عليه الصلاة والسلام مرتين: كلمه في هذا الموضع، وكلمه عندما ناداه عند جبل الطور في نفس الموضع، وهذا الجبل -جبل الطور- كان عن غرب موسى وفي نفس الوقت كان في الجانب الأيمن منه، قال الله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم:52]- موضع الشاهد: أن الله جل وعلا طمأن موسى حتى يعطيه، لكن يقول الناس عموماً كفوائد تاريخيه: أنه قد يوجد في الناس -لكن هذه حالات أفراد شاذة- من يكون رابط الجأش حتى عند رؤية السيف، ويقولون: إن المعتصم أراد أن يقتل رجلاً يقال له تميم بن جميل، كان له أطفال وصبية صغار، ثم إنه أحضر النطع والجلاد والسيف والناس ينظرون، ولم يكن ثمة شك بأن أمير المؤمنين قرر قتله، فأراد المعتصم أن يختبره ليرى أين لسانه عن جنانه، فقال له: ما تقول يا جميل؟ هذا والسيف مشهور، والكفن منشور، والقبر شبه محفور، فقال: أرى الموت بين السيف والنطع كامناً يلاحظني من حيث ما أتلفت وأكبر ظني أنك اليوم قاتلي وأي امرئ مما قضى الله يفلت يعز على الأوس بن تغلب موقف يسل علي السيف فيه وأسكت وما جزعي من أن أموت وإنني لأعلم أن الموت شيء مؤقت ولكن خلفي صبية قد تركتهم وأكبادهم من حسرة تتفتت كأني أراهم حين أنغى إليهم وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة أذود الردى عنهم وإن مت موّتوا فتعجب المعتصم من رباطة جأشه مع الحال التي هو فيها، وقال: تركتك لله ثم لصبيتك، وعفا عنه.
لكن هذا المقام الذي قامه تميم بن جميل بين يدي المعتصم مقام فردي قلما يعطاه أحد، لكن في باب الدعوة وفي باب التربية التأسي بالقرآن هو الأصل، ولذلك لما أراد الله أن يربي هذا النبي المكلم عليه السلام خاطبه بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12]، وعرفه بالمقام: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، ولهذا أحياناً تتلقى مكالمة مجهولة المصدر فلا يحسن أن تتعامل معها بانفعال ولا بعجلة، وإنما من حقك على من اتصل بك أن تعرف من هو قبل أن تعرف مقامك، وليس من الأدب ما يشيع عند بعض الناس أنه إذا اتصل من غير عمد سوء يقول: ما عرفتني؟! فيعرضك للإحراج في أن يذهب همك في البحث عن شخصيته، فالواجب على الإنسان إذا دخل أن يقول: أنا فلان، أو إذا اتصل أو طرق باباًَ وغلب على ظنه أن من أمامه لا يسمعه أو لا يعلمه أن يعرفه بنفسه.
نختم على هذه القضية بشاهد عظيم من السنة، فالنبي عليه الصلاة والسلام وجبريل أرفع الخلق، فلما استفتح باب السماء وجبريل يطرق يقول له الخازن: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل، فيقول: هل معك أحد؟ فيقول: نعم، معي محمد.
قال العلماء: فاستئذان جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم رغم أنهما أرفع مقاماً من صاحب المحل -من خزنة السماء- يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يستأذن ويعرف بنفسه ولو كان داخلاً على من هو أقل منه، وهذه قضية مهمة جداً في فهم كلام الله جل وعلا.
نفعنا الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، والله المستعان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.