قال تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، (ما): نافية قطعاً، و (أنزلنا): أخبر الله أن القرآن منزل من عنده، وقد فصلنا القول في التنزيل وأنواعه، ونذكر بأن الله لا يذكر أن شيئاً أنزل من عنده إلا القرآن، وفي غيره يبهم أو يسنده إلى غيره، كقوله: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا} [البقرة:59] من أين؟ {مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة:59]، ولم ينسبه إلى نفسه، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان:48]، ولم يقل من عندنا، فالذي ينسبه الله ويضيفه إلى ذاته العلية لا يكون إلا القرآن، كما قال تعالى: {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس:5]، وغيرها من الآيات الكثيرة.
يقول تعالى: {مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:2]، الشقاء: هو العناء والتعب، ومقصود الآية: أن هذا القرآن أنزلناه رحمة بك، وبه ترحم الناس، وليس المقصود من إنزاله أن يصيبك شقاء وعناء وتعب من كثرة محاورتك لقومك، وكثرة تأسفك على حالهم؛ فإنك لست مكلفاً بأكثر من أن تدعوهم إلى الدين، وهذا المعنى يؤيده القرآن كله، قال تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22]، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ} [الكهف:6]، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8]، فالقرآن يؤيد هذا المعنى، وهو أن الله ما أنزل هذا القرآن على نبيه حتى يصيبه من الكمد والعناء والشقاء بسبب جحود قومه له.
قال تعالى: {إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:3] (إِلَّا) استثناء منقطع: ((تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى))، فالقرآن تذكرة، لكن هذه التذكرة لا يفرح بها ولا ينالها كل أحد، وإنما ينالها أهل الخشية، فيدخل فيها جميع من يخشى الله، وفي مقدمتهم بل في ذروتهم نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
قال تعالى: {تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى} [طه:4] قوله: (تنزيلاً) أي: هذا القرآن، و (تنزيلاً) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره نزلناه تنزيلاً، ((تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى)) وهو الله جل جلاله، وقدم الأرض هنا على السموات لأنها ألصق بحياة الناس، وهي أولى الآيات المحسوسة بالنسبة لهم.
وخلق السماوات والأرض من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، وقد قررته أكثر من آية في كلام الله.
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، أي: من خلق الأرض والسماوات العلى هو الرحمن، فالرحمن خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
والرحمن: اسم من أسماء الله الحسنى؛ بل من أعظم أسمائه الحسنى، فالرحيم يجوز أن ينادى به غير الله، فتقول: فلان رحيم بغيره، لكن لا يقال: فلان رحمن بغيره، فهذا من الأسماء المختصة بالله جل وعلا.
وقوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))، العرش: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، والدليل على أنه ذو قوائم: قوله عليه الصلاة والسلام: (فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا بموسى آخذ بقوائم العرش)، فهذا نص صريح على أن العرش له قوائم تحمله الملائكة، قال الله جل وعلا: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقال الله في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر:7]، فأثبت الله أن هناك ملائكةً تحمل العرش.
وقوله: ((عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) أي: استواءً يليق بجلاله وعظمته، وهذه أحد ست آيات أخبر الله جل وعلا فيها أنه مستوٍ على عرشه، ولا ينبغي العدول أبداً عن قول أهل السنة: أن الاستواء معلوم، والكيف مجهول؛ لأن ذكر الله للاستواء في أكثر من موضع تصل إلى ستة ولم يتغير اللفظ دليل على أن اللفظ مقصود لا يقوم مقامه غيره، وقد ذهب بعض أهل البدع إلى أنه بمعنى: استولى؛ وهذا باطل، فإن الله قد أخبر أنه مستوٍ على عرشه، ونحن نقول: نؤمن بكلام الله على مراد الله، ونؤمن بكلام رسول الله على مراد رسول الله، وقد كان الشافعي يردد هذا الكلام كثيراً: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه:6]، ذكر الله أربعة أملاك: السماوات، والأرض، وما بينهما، وما تحت الثرى، واختلف في معنى قوله: (وما تحت الثرى)، ولعله يدخل فيها -من حيث الاستئناس- المعادن التي في الأرض، وكنوز الأرض المدفونة غير الظاهرة، وما بين السماوات والأرض: الأشياء الظاهرة.
وينبغي أن نعلم أن الله ملك الأملاك، ورب الأفلاك، وأنه جل وعلا متصرف في هذه الأربعة تصرفاً تاماً؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي يملكها، وهو الذي يفنيها، وهو الذي يحيي من شاء منها، وهذا كله ملك تام لا نقص فيه بأي وجه من الوجوه، قال تعالى: ((لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى))، (ما) هنا موصولة، والمعنى: والذي تحت الثرى، وليست نافية، و (ما) الموصولة لا يجوز الابتداء بها، فمثلاً قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136]، لا يجوز أن تقف فيها ثم تبدأ بقوله: ((وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ))، لأنه ستصبح (ما) نافية، فما الموصولة لا يبدأ بها، إنما تعود وتقرأ: {إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى} [البقرة:136]، ولا تبدأ بها.
فهنا لو أن إنساناً انقطع نفسه فلا يقرأ: ((وَمَا تَحْتَ الثَّرَى)) وحدها، فكأنه ينفي؛ لأنها موصولة فلا يبدأ بها؛ لأن واو العطف لا يعتبر شيئاً، وهذا يحترزه الأئمة.