جاء القرآن ليبين من هم المتقون، وقبل أن أبين من هم المتقون، أقول مستصحباً السيرة: هذه السورة مدنية، النبي عليه الصلاة والسلام هاجر من مكة إلى المدينة، وكل من هاجر هاجر اختياراً ولم يهاجر اضطراراً، ومعنى: هاجر اختياراً يعني: رغبة في الدين، ولا يتصور مهاجر مكره على الدين.
استوطن النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان فيها الأوس والخزرج العصبة الكبرى وثلاث قبائل من اليهود بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، هذه القبائل أحلاف للأوس والخزرج الذين هم عرب.
والديانات التي كانت موجودة: الأوس والخزرج يعبدون الأصنام على ما جرت عليه عادة مشركي العرب آنذاك، وقبائل اليهود الثلاث على الملة اليهودية المحرفة، على سالف ما عليه أهل الكتاب من قبل، وقد قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكان قبله من الصحابة قد وصلوا إليها وآمنوا ونشروا الإسلام، فآمن عدد غير قليل من الأوس والخزرج، وآخى النبي بينهم وأسماهم الأنصار، وإلى الآن لم يكن للنبي شوكة، ومتى يحصل الخوف؟ عندما يكون عند خصمك شوكة، فمن لم يؤمن من الأوس والخزرج لا حاجة أبداً لأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لا شيء يدعوه إلى هذا؛ لأنه لا يخاف أحداً، واستمر الحال على هذا الأمر حتى كانت وقعة بدر، فلما كانت وقعة بدر وانكسر سيف الشرك، وانتصر المسلمون؛ أضحى للمسلمين شوكة، وللنبي دولة وقوة بالمعنى الحق، وهذه الشوكة هي التي جعلت من كان يظهر الكفر يبطنه ويظهر الإيمان وهؤلاء هم المنافقون.
ومن قبل كانوا قسمين: ملة الشرك وملة اليهود، ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أصبحوا ثلاثة أقسام: المسلمون واليهود والمشركون، ولما جاءت موقعة بدر هؤلاء قل المشركون؛ لأن أكثرهم دخل في الإسلام، لكن بعضاً منهم أصبح منافقاً يظهر الإيمان ويبطن الكفر، ما الذي دفعه إلى هذا؟ أنه أضحى للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه شوكة، هذا سبب ظهور النفاق؛ لأنه إذا كانت الأمور متساوية فلا داعي للنفاق، كل يظهر ما يشاء، لكن هذه الشوكة جعلت عبد الله بن أبي بن سلول وغيره من أتباعه يفعلون هذا.
أنزل الله جل وعلا فواتح سورة البقرة وذكر فيها الطوائف الثلاث: ذكر فيها أهل الإيمان، وذكر أهل الكفر في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:6 - 7]، أما المنافقون فأطنب في ذكرهم؛ لأن حالهم كان ملتبساً على الناس، فحرر جل وعلا القول فيهم حتى يكشف عوارهم ويهتك أسرارهم ويبين حالهم، وهذا من أوائل ما أنزل في حقهم ثم تتابع الأمر وانتهى بهم المطاف في سورة التوبة، ومعرفة هذا الأمر مهم جداً.