جملة فإنه يقال: الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً، الرسل منهم ثلاثمائة وأربعة عشر، وأولو العزم منهم خمسة، والمذكورون في القرآن المتفق على نبوتهم خمسة وعشرون، والوحي ينزل على كل الأنبياء وهو أعظم خصائصهم، وبه يفرق ما بين النبي المؤيد بالوحي وما بين المصلحين في الأرض من الساسة والقادة والمفكرين فإنهم يخطئون ويصيبون؛ لأنهم غير معصومين، أما الأنبياء فإنهم معصومون؛ لأنهم يأخذون علمهم عن الله، والوحي هو أول خصائص الأنبياء.
الأمر الثاني: أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
الأمر الثالث: أنهم يخيرون عند الموت.
الأمر الرابع: أنهم يدفنون في البقعة التي ماتوا فيها.
والأمر الخامس: أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم.
سئل صلى الله عليه وسلم: (كيف نصلي عليك وقد أرمت؟ قال: إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، فلو خرجت من مجتمعنا العلمي هذا وسألك سائل: كيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض) والأرض غير مكلفة فكيف يقع عليها التحريم؟ يكون جوابك -ولا حاجة إلى أن أستفهم منك- أن تقول: هذا تحريم منع أو تحريم شرع؟ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، ونظيره في القرآن قول الله جل وعلا: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12] تحريم منع ليس تحريم شرع؛ لأن موسى عليه السلام المخاطب بهذه الآية كان صبياً صغيراً رضيعاً لا يجري عليه قلم التكليف، لكن المعنى أننا منعناه من أن يقبل ثدي المرضعات، فالتحريم تحريم منع، أما التحريم الذي عليه قلم التكليف فهذا يسمى تحريم شرع، والأصل أن الأرض تأكل أجساد الناس إذا ماتوا، لكن الله جل وعلا منعها وهذا تحريم المنع من أن تأكل أجساد الأنبياء إكراماً جل وعلا لأنبيائه ورسله، هذه خصائص الأنبياء فقط، ثمة خصيصة تجمعهم لكن يمكن أن يشاركهم فيها غيرهم وهي رعي الغنم، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح قال: (وهل من نبي إلا رعاها)، والمعنى: أن جميع الأنبياء رعوا الغنم، لكن لا يمنع أن يرعى الغنم غير الأنبياء فقد وقع هذا من كثير من الناس من الصالحين وغير الصالحين ورعوا الغنم لكن الأنبياء يعلمهم الله جل وعلا برعي الغنم كيف يكونون بعد ذلك ساسة للأمم.
نعود إلى قولنا: إنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فهذا لا يعرف كيفيته، لكن المقصود: أن قلوبهم حية معمورة بذكر الله جل وعلا، وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عمرت قلوبهم بذكر ربهم تبارك وتعالى ومحبته وجلاله ومن جميل ما قيل مأخوذ من هذا الأثر: لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم صلوات الله وسلامه عليه، والأبيات فيما أحفظ لأخينا الدكتور ناصر الزهراني وهي من جميل الشعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها بيت فرد بعد ذلك في نفس القصيدة: يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم صلوات الله وسلامه عليه.
نعود للآية: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] وهذا ما تقرر عقلاً ونقلاً وشرعاً وطبعاً أن الرسل ما جاءت إلا بالتوحيد، وقد قلنا مراراً: إن النبي صلى الله عليه وسلم يقولون في الروايات: إنه لما صلى بالأنبياء والمرسلين في المسجد الأقصى التفت فإذا مشيخة الأنبياء وراءه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وذريتهم فقال: (إن الله قد أمرني أن أسألكم: هل أمركم الله أن تدعوا إلى عبادة غيره؟ قالوا: لا) قال العلماء: هذا هو تفسير قول الله في الزخرف: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف:45].
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] يدخل في رجاء لقاء الله ثلاثة أمور عندنا، وواحدة أو اثنتين عند المعتزلة، وعندما نقول: عندنا فإننا نقصد أهل السنة جعلنا الله وإياكم من سبيلهم، فالمعتزلة يقولون: فمن كان يرجو لقاء الله يعني: يرجو ثواب الله ويكتفون بهذا.
وأهل اللغة يقولون: إن الرجاء يستخدم في المرغوب والمرهوب، فيما تطلبه وفيما تفر منه، والمعنى عندنا أن يرجو لقاء الله أي: أن المؤمن يرجو ثلاثة أمور: لقاء الله بمعنى: رؤيته، أي: يرجو رؤية الله بعمله، ويرجو ثواب الله بعمله، ويخشى عقاب الله بعمله، فأنت تصلي وتقرأ القرآن وتصوم يوم الإثنين وتسبح وتقوم الليل وتتصدق من أجل أمور ثلاثة لهذا العمل: لعل الله أن يثيبك؛ لعل الله أن يؤمنك من العقاب؛ لعل هذا العمل الصالح يكون سبباً في رؤية الله جل وعلا، هذا معنى {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف:110] وإنما حصرها المعتزلة في قضية حصول الثواب وبعد العقاب؛ لأن مذهبهم قائم على أنهم ينفون رؤية الله جل وعلا، وقد مر معنا ما يسمى بلن الزمخشرية فإنهم يقولون: (لن تراني) بمعنى النفي المؤبد للرؤية.
نعود فنقول: إن الله جل وعلا يقول: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
الله جل وعلا لا يعبد إلا هو، ولا يعبد بما شرع وهذه من أعظم قواعد الدين: أن الله لا يعبد إلا هو، وقد أمر ألا يعبد إلا هو، ولا يعبد جل وعلا إلا بما شرع قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، على هذا فقول الله جل وعلا: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف:110] الأصل أن العلماء يقولون: إن العمل الصالح لا بد فيه من شرطين: إخلاص العبادة، والأمر الثاني: موافقة العمل لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وهذا حق لكن العمل الصالح في هذه الآية يراد به ما كان موافقاً لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، أما الإخلاص فقد دل عليه الجزء من الآية الذي بعده وهو قوله جل وعلا: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، ولا يمنع أن يكون المقصود بالعمل الصالح الأول وتكون جملة أو جزء آية: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] تأكيداً لمسألة الإخلاص وهو أقرب، {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وكلمة {أَحَدًا} [الكهف:110] نكرة وجاءت في سياق نفي، والمعنى: أن الله جل وعلا أغنى الأغنياء عن الشرك، فمن أشرك مع الله غيره أوكله الله جل وعلا إلى ما أشرك به، ولا يعبد الله جل وعلا بأعظم من إخلاص العبادة له، والإنسان قد ينال بنيته ما لا ينال بعمله، وكلما عظمت المعرفة والعلم بالله جل وعلا ركزت المحبة في القلب، وإذا ركزت المحبة في القلب لله جل شأنه نجم عن ذلك من الأعمال ما يقرب إلى الله جل وعلا، وأرفع الدرجات لا يناله المرء إلا إذا أقام نفسه على عتبة العبودية للرب تبارك وتعالى، وعتبة العبودية تستلزم ألا يكون في القلب أحد غير الله إلا أحداً نحبه أو نواليه في محبتنا وموالاتنا لربنا تبارك وتعالى، هذا جملة ما أخبر الله جل وعلا عنه في هذه السورة المباركة.