نعود فنقول: قال الله جل وعلا بعدها: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:103 - 105] ثمة معانٍ جليلة تتضمنها هذه الآيات، أولها: أنه لا يمكن أن يقال: إن المخاطب بها فئة بعينها، وإنما المخاطب كل من صنع صنيعاً يعتقد أنه حسن وأنه ناجٍ بذلك العمل وذلك العمل لا يدل الشرع عليه يدخل في هذه الآية بقليل أو بكثير بنسب متفاوتة، كل من صنع صنيعاً ويعتقد أنه أحسن بذلك العمل وأنه ناجٍ يدخل في هذه الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:103 - 104]، قوله: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} [الكهف:104] بمعنى: اضمحل ولم ينجم عنه فائدة، وهم يحسبون ويعتقدون مع هذا الاضمحلال وهذا الضلال أنهم يحسنون صنعاً ويتقنون أمراً.
قال الله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105] هذا الاحتراز في أن الآيات لا تطلق إطلاقاً عاماً إلا على أهل الكفر لكنها تطلق من وجه نسبي على غيرهم لا من وجه عام كما قيل لـ عبد الله بن مسعود في قضية الميراث لما مات رجل عن زوجته قبل الدخول فأفتى فيها بعض الصحابة وقال: ائتوا ابن مسعود فسيوافقني، فلما أخبر ابن مسعود قال: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، ثم قال بفتوى أخرى وافقت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك قبل أن يعرف، المقصود قول ابن مسعود: قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين، والآية ليست في بابها لكنه أخذ جزئية منها، فالتشبه هنا ليس بكامل الوجوه وعليه يحمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)، فالمقصود: جزء من التشبيه وهو إمكانية الرؤية، وليس المقصود تشبيه الله بخلق من مخلوقاته، فهذه مثلها، وعلى هذا -وهذا تأصيل علمي- يحمل في الأخذ الجزئي من الآية قول سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه خال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه قتل عثمان وأن الذين قتلوه زعموا أنهم بقتلهم له يتقربون إلى الله، وهؤلاء يدخلون في الأخسرين أعمالاً، فتلا الآية؛ لما قيل له: إن قتلة عثمان صنعوا وصنعوا وصنعوا تلا الآية: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف:103 - 104] لكن الآية آخرها لا ينطبق عليهم؛ لأن الله قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف:105]، وهؤلاء الذين قتلوا عثمان يؤمنون بلقاء الله، بل إنهم قتلوه في زعمهم تقرباً إلى الله، وهذا يهمنا جداً في أن نفهم أن الإنسان أحياناً تختلط عليه الأمور وتتزاحم عليه الشبهات إذا قبل أن يسمع من كل أحد، وإن لم يكن مؤصلاً علمياً يملأ بغير شيء صحيح.
ذكر الإمام البخاري رحمه الله في تاريخه سنداً عن غالب قال: حدثنا غالب وفي هذا السند عن محمد بن سيرين، ومحمد بن سيرين يقول في هذه الرواية: إنه وقف عند الكعبة فسمع رجلاً يدعو يقول: اللهم اغفر لي وإن كنت أظن أنك لن تغفر لي، فقال له محمد بن سيرين: يا هذا! ما سمعت أحداً يدعو بمثل دعائك، فقال: إنك لا تدري إنني كنت قد أعطيت الله عهداً أن ألطم عثمان على وجهه متى قابلته، فقتل عثمان قبل أن ألطمه، فلما وضع عثمان في داره ليصلى عليه دخلت في جملة من يصلي حتى وجدت خلوة فكشفت عن وجهه ولحيته ولطمته، ثم رفعت يميني فإذا هي يابسة.
قال ابن سيرين رحمه الله في الرواية: فأنا رأيت يمينه يابسة كأنها عود.
ووجه الدلالة الآن هنا: أن هذا يعطي الله عهداً يعني يعرف أن هناك رباً ويعطيه عهداً ويريد أن يحافظ على العهد الذي أعطاه الله وعثمان رضي الله عنه لم يأخذ من هذا الرجل ديناراً ولا درهماً ولم يسفك له دماً ولم يهتك له عرضاً، وربما أنه لم يقابله طول حياته، لكن هذا الرجل كان يسمع ويقبل أن يسمع ممن يطعن في عثمان وليس المجنون الذي فقد عقله؛ لأنه لا يلام، إنما المجنون من يعطي غيره عقله ليقوده، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (عثمان في الجنة)، (أشد أمتي حياءً عثمان)، (ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم) إلى غير ذلك من المناقب، فيجعل هذه الآثار كلها وراء ظهره ثم يسمع قول رجل من عامة الناس في قلبه حقد وحسد على عثمان فيصدقه ويصل به الأمر إلى أن يقطع العهود والمواثيق على قتل عثمان، فهذا أول ما تتضمنه الآية في أنها ليس مخصوصاً به أحد، فاليهود والنصارى وسائر من زعم أنه بفعله يتقرب إلى الله كقول القرشيين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] يدخلون في هذه الآية، لكن أولئك الذين عبدوا عيسى أو عبدوا عزيراً أو عبدوا أصناماً يدخلون بها من كل وجه ويدخل بها غيرهم إذا كان غير ذلك بحسب قوله في المسألة.
ثم قال الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] وهذه الآية أشكلت على المفسرين، وقال بعض أهل الفضل ممن يشار إليهم بالبنان قولاً تعجب منه، قال بعضهم: إن معنى قول الله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105] أنه لا يوزن لهم عمل، وحجة هؤلاء الفضلاء في قولهم هذا: أن الميزان يقوم على كفتين حسنات وسيئات، فالكفار لا حسنات لهم وبالتالي لا ميزان لهم، والآية يقولون: دليل على ما نقول؛ لأنه لا ميزان إلا لشيء مقابل شيء، وأهل الكفر نحن مجمعون على أنه لا حسنات لهم، فما دام لا حسنات لهم فكيف يكون لهم ميزان، فالآية ليست مجازية وإنما صريحة في أن الله جل وعلا لا يقيم لهم وزناً يوم القيامة.
وهذا القول قاله الثعالبي واختاره ابن سعدي وقاله كثير من المفسرين، لكن لو قدر أن هؤلاء تأنوا في أن الله يقول في سورة المؤمنون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:102 - 110] فكل هذه الآيات تدل على أنهم كفار ومع ذلك أثبت الله لهم أنهم توزن أعمالهم؛ لأن الله قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:103] والله شهد لهم بالكفر؛ لأن العصاة من أهل الإيمان لا يقال لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] وإنما يخاطب بهذا من كتب الله عليه الخلود في النار، فهم كفار ومع ذلك نسب الله إليهم صراحة أنهم توزن أعمالهم فقال: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:102] في حق أهل الإيمان، وقال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [المؤمنون:103] في حق أهل الكفر.
فلا معنى أبداً لقول: إن أهل الكفر لا ميزان لهم.
ومن الأدلة العقلية فضلاً عن هذا الدليل النقلي الظاهر: أن الميزان أكثر ما ذكر في الصور المكية والصور المكية مخاطب بها كفار قريش قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] في الأعراف، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47]، وهذه الآية التي بين أيدينا في الكهف وهي مكية وكلها سور مكية، ولم يكن الحديث عن أهل الإيمان في كيفية حسابهم إنما كان في أهل الإيمان وأنهم يحاسبون على الجملة، يكلم عنهم على أنهم فرقة مؤمنة وفرقة كافرة.
ثم نعود فنقول: اختلف الناس في من الذي يوزن؟ وهذا مر معنا وإنما نعيده إجمالاً، قيل: يوزن العمل ودليل هؤلاء قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وهذا صريح في أن العمل يوزن، وقيل: يوزن العمل، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والحمد لله تملأ الميزان)، وقيل: توزن صحائف الأعمال أي: أن الأعمال تكتب في صحائف فتوزن، ودليلهم حديث البطاقة المعروف، وقال آخرون: بل يوزن صاحب العمل ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم في منقبة عبد الله بن مسعود: (أتعجبون من دقة رجليه؟ إنهما في الميزان لأثقل من جبل أحد)