تفسير قوله تعالى: (وعرضوا على ربك صفاً)

{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48].

فكما خلقناكم أول مرة، وهذا بداية الخلق الأول، ويبعث بعد الموت يسمى الخلق الثاني أو الخلق الآخر، وهو الذي حار فيه أهل الإشراك، قال الله جل وعلا: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} [ق:15]، وهم يعترفون بالخلق الأول، وأن الله خالقهم، لكن المشكلة كما قال الله: {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15]، هو الشك عندهم في قضية البعث.

فقال ربنا وهو يخاطب أهل الإشراك: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف:48]، اسم زمان، أي: ليس لكم موعد زماني ولا مكاني، وهذا مخاطب به أهل الكفر في المقام الأول أنهم كانوا يعترضون على البعث والنشور، قال الله جل وعلا: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7].

ثم ما زالت الآية تذكر أهوال اليوم الآخر قال الله: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ))، وهو اسم جنس: ولكل أحد كتابه كما دلت عليه كثير من النصوص: ((وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ))، أعاذنا الله وإياكم منهم: ((مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ))، أي: أصابهم الوجل والخوف، انقلب ما كانوا يظنونه وهماً إلى حقيقة، وأصبح أمراً مرئياً لا يمكن إنكاره.

قال الله جل وعلا: ((وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)) مؤنث ويل، والمعنى: الدعوة على أنفسهم بالهلاك والثبور، أي: شعروا بالهلاك والثبور: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49].

قول الله جل وعلا: ((صَغِيرَةً))، إخبار بدقة ما تضمنه الكتاب، وقوله جل وعلا: ((وَلا كَبِيرَةً))، إخبار بالعموم.

قال الله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف:49]، كل ما صنعه الإنسان، واقترفته اليدان، وأبصرته العينان، أي خطيئة في ليل أو نهار سيراها المرء بين عينيه، أعاذنا الله وإياكم من ذل الفضيحة يوم العرض عليه، قال الله: ((وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))، بل إنه سبحانه يغفر ويرحم، ويقيل العثرة، ويقبل التوبة، ويعفو عن السيئات.

{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}، منزه جل وعلا عن أن يظلم أحداً، فأنت عندما تناجي ربك اثن على ربك بأنه تنزه عن الصاحبة والولد، وتقدس فلم يلد ولم يولد، وتعالى أن يظلم أحداً، فكلما نعت الله بما أثنى به على نفسه كنت أقرب إلى رحمة ربك، ومثال ذلك قوله: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا} [الجن:3]، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3]، وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015