قال الله: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف:21]، فأخرجنا من تصرف الفتية وأدخلنا في تدبير العلي الكبير، ذهب ذلك الفتى الذي بعثه أصحابه يقيناً أنه أخرج تلك الورق فعرفها من أخرجها له أنها قديمة، فصار بينهما نوع من المساءلة التي تدل عليهم، وهذا المعنى حقيقي؛ لقول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الكهف:21] وهناك أشياء تدل بعضها على بعض، فالذي حفظ هؤلاء ثلاثمائة عام ثم بعثهم من مرقدهم - والموت أخو النوم - قادر على أن يبعث من في القبور كما قال الله في إنبات الأرض: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى} [فصلت:39]، والأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير وهذا معنى قول الله: {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21] أي: أنها حق قادم لا شك فيه.
{إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} [الكهف:21] والذي يتنازع هم القوم الظاهرون.
يتنازعون أمر هؤلاء الفتية بعد أن ماتوا، والدليل على وقوع ذلك بعد موتهم أن الله قال: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21].
واتخاذ المسجد لا يكون على أحياء إنما يكون على موتى، فإن احتج أحد بأنه يجوز بناء المساجد على القبور نقول: إن هذا باطل بدليل: أن القرآن فيه محكم ومتشابه، فالمتشابه من أي قول يرد إلى المحكم، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، أي: في آخر أيام حياته مما لا يدخله النسخ قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يحذر ما صنعوا، أي: ما صنع اليهود والنصارى بقبور الصالحين، واللعن لا يكون إلا على أمر كبير عظيم منهي عنه في الدين.
فهذا الحديث فصل خطاب وليس من الإنصاف ولا من طرائق العلم المعتمدة المعتبرة أن يترك الإنسان المحكم ويفر إلى المتشابه، وإنما يفر الإنسان من المتشابه ويعمد إلى المحكم إذا أراد أن يصل إلى الحق، أما من لم يرد الوصول إلى الحق فسيتخذ بنيات الطريق، ويتلوى في قواعد العلم حتى يصل إلى مبتغاه وهواه، أعاذنا الله وإياكم من اتباع الهوى.
قال تعالى: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] فإن قال قائل: إن قبر النبي صلى الله عليه وسلم اليوم في مسجده.
نقول: إن الصحابة لم يتخذوا مسجداً على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فالمسجد بني قبل وجود القبر، وإنما الحقيقة التاريخية أن حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها التي قبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي أصلاً خارجة عن المسجد والمسجد كان الصف الأول منه مواز للحجرة ما يسمى بالروضة الآن وهي المكان المفروش بفراش أخضر، ويوجد إلى اليوم مكان لمحراب النبي صلى الله عليه وسلم المجاور للمنبر داخل الروضة، هذا المحراب كان موضع صلاته صلى الله عليه وسلم، فلما كانت خلافة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وسع المسجد من جهة القبلة؛ من جهة الجنوب، والمحراب الذي يصلي فيه الأئمة اليوم هو محراب عثمان لم يصل به النبي صلى الله عليه وسلم وإنما صلى فيه عثمان، وإنما تأسينا به؛ لأن الصحابة وهم أفقه منا وأتقى تأسوا بـ عثمان عندما جعل قبلة المسجد متقدمة قليلاً من جهة الجنوب.
ثم مضى الأمر على هذا الحال حتى كانت خلافة الوليد بن عبد الملك وهو أحد خلفاء بني أمية وكان له شغف بالبناء والعمارة والناس على دين ملوكها، ففي زمن الوليد كان الناس يتساءلون عن البناء أكثر شيء، وهذه حياتهم، في زمن عمر بن عبد العزيز كان يحيي الليل فكان الناس يتساءلون: كم صليت من الليل؟ كم قمت؟ كم أوترت؟ فـ الوليد كان من شغفه بالبنيان أنه أمر عامله على المدينة آنذاك وهو عمر بن عبد العزيز ابن عمه رحمه الله، أمره أن يوسع المسجد، فلما امتدت التوسعة جهة الشرق؛ ولأن الحجرة تقع في جهة الشرق أدخل الحجرات، وقد أخطأ من صنع هذا الصنيع، أخطأ خطأً تاريخياً؛ لأنه ألبس على الناس أمرهم، فظن المتأخرون من الناس أن القبر بني داخل المسجد وإلا فإن الحجرة كانت خارج المسجد في عهد الرسول وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومعاوية بن يزيد ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان فهؤلاء تسعة خلفاء والوليد العاشر - إن لم أنس - أحداً من الخلفاء الذي وصل إليه الأمر.
وهذا كله تقريباً عام 90 هجرياً أو أكثر بقليل، وهو متأخر، فلا علاقة للقبر بالمسجد أو المسجد بالقبر، ثم إنه في عهد هذه الدولة المباركة عندما جاءت التوسعة توخى ولاة الأمر في هذه البلاد أن تكون التوسعة شاملة للمسجد كله وإنما تأخروا من جهة الشرق قليلاً حتى لا يصبح القبر وسط المسجد، ويلاحظ الإنسان في بنيان الحرم أن فيه مثل المستطيل ثم تبدأ التوسعة فمكان القبر من جهة الغرب أو الشرق لا يوجد توسعة في مقدمة الصفوف، لا توجد توسعة حتى لا يصبح القبر متوسطاً للمسجد، وفي هذا محاولة لإبعاد اللبس، وهي عمل صالح مبارك موفق اهتدى إليه ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد.
هذا الذي يعنينا حول قول الله جل وعلا: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21] وفي قوله جل وعلا: {غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21] دلالة على أن السلطان يصنع ما لا يقدر عليه غيره، وهذا معنى {غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21].