ثم قال الله بعدها: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]، جملة الآية تدل على التوفيق, لكن إذا خصصناها بالهجرة أصبح معنى: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]: إتيان المدينة, و {مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء:80]، يعني: الخروج من مكة, قال: {وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80]، وفيها: حاجة الإنسان إلى النصير من الله جل وعلا والسلطان والبرهان.
أما قوله سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار، فإنك إن خرجت اليوم طريداً, فسيأتي يوم يزهق فيه الباطل ويقوم فيه الحق؛ لأن الباطل وإن راج حيناً إلا أنه زهوق، قال تعالى: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، وهذا هو المعنى العام لهذه الآية.
أما المعنى التفصيلي فنقول: إن الآية تدل على أن الله يأمر نبيه أن يلتمس من ربه التوفيق في أموره الظاهرة والباطنة, وأن يسأله النصرة فلا غنى لأحد عن الله, وقد قلت مراراً: إن الأمور ثلاثة: ما لا يكون بالله لا يكون.
وما يكون لغير الله لا يبقى ولا يدوم.
وما يكون لله هو الذي يبقى ويدوم, وإن ذهبت عينه بقي في الآخرة أثره.
نعرج هنا -أيها المباركون- إلى مفارقات في الهجرة خفيت على الناس؛ لأن الآية تتحدث من حيث الإجمال عن الهجرة.
مقارنة بين الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة: الهجرة إلى الحبشة كانت هجرة إلى دار أمان وأمن, وأما الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان, فمجتمع الحبشة لم يكن مجتمعاً مؤمناً بخلاف مجتمع المدينة, ولهذا قال الله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر:9]، فعبر الله عن الأنصار بأنهم تبوءوا الدار والإيمان, فالهجرة إلى الحبشة هجرة إلى دار أمن وأمان, أما المدينة فهجرة إلى دار إيمان, وأعظم العطايا أن يسكن الإنسان في دار أمن وإيمان.
والمسلمون الذين يعيشون في الغرب الآن يتكفل لهم النظام السياسي هناك بالأمان في ظل الديمقراطية التي يعيشونها, لكنه لا يكفل لهم دار الإيمان، فلا يسمع المسلم صوت المؤذن ولا يغدو ويروح في أسواق المؤمنين, ولا يحتكم إلى شريعة الإسلام, فقد أعطي الأمان وحرم حياة مجتمع الإيمان، وإلا فالإيمان في قلبه موجود لا يعد كافراً, لكنه حرم مجتمع الإيمان, كحال المسلمين الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة, ومن يعيش في بلادنا مثلاً -حرسها الله- فهو يعيش في دار أمن ودار إيمان أشبه بالمجتمع المدني الذي هاجر إليه الصحابة, هذا الأول.
الأمر الثاني: من أخطاء بعض الفضلاء من أجلاء العلماء أنهم إذا ذكروا الهجرة النبوية ذكروا الهجرة من الذنوب, وعندي هذا لا يستقيم, يقول صلى الله عليه وسلم: (والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)، لكن مثل هذا لا يقال إذا ذكرنا الهجرة؛ والسبب في ذلك يلي: أنت عندما تهجر ذنباً أو تترك رفقة سيئة فأنت تهجرهم وأنت مبغض لهم, وهذا سبب هجرانك لهم، فأنت تبغض الذنب ثم تهجره وتتركه، وتبغض الرفقة والمكان السيئ لتذهب إلى المساجد, فأنت تستبدل شيئاً سيئاً بشيء أحسن منه, أما النبي صلى الله عليه وسلم فلا تنطبق هذه القاعدة العامة عليه, فهو لم يهاجر من مكة رغبة عنها, وإنما هاجر لأن قومه أخرجوه, وقد قال صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أن الهجرة ولدت في يوم البعثة, وذلك لما ذهبت به زوجته خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وأخبره بأن قومه سيخرجوه, قال صلى الله عليه وسلم في أول أيام البعثة: (أومخرجي هم؟!) فالإخراج كان من القرشيين, وهجرته صلى الله عليه وسلم من مكة ليست هجرة مبغض حاشاه صلوات الله وسلامه عليه, بل قال: (ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت)، لكن أراد الله لأهل المدينة خيراً, وهذا أمر يجب استصحابه.
قال الله: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء:81]، هذا نوع من الاستبشار أعطاه الله لنبيه وهو خارج من مكة, وبقي يحمل تلك البشارة حتى مرت ثمانية أعوام فدخل بتلك البشارة عينها مكة، وقال صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى الأصنام، ويقول وهو يتلو الآية: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81]، ويشير إلى تلك الأصنام فتهوي وتتساقط على وجوهها, وهذا يدل على جمال الشيء إذا وقع في وقته, فهو عليه الصلاة والسلام لم يستعجل سقوط الأصنام منذ سنوات, وإنما بقيت الأصنام معلقة على أطهر بيت وأكمله إحدى وعشرين سنة, والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم هذا, فلما أزالها من عقولهم، وأزال محبتها من قلوبهم أشار إليها فتساقطت، ولم يبق منها شيء.
والأمر الآخر: أنه يجب إزالة الأوثان والمعابد والأضرحة وما يعبد من دون الله إذا كنا نتمكن من إزالتها, بل إن ذلك من أعظم الواجبات, والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر نزول عيسى بن مريم وأراد أن يعدد صفاته قال في أولها: (ليكسرن الصليب)، فشعارات أهل الكفر لا يجب أن تبقى أبداً, وأعظم الكفر: ما يعبد مع الله تبارك وتعالى كالمشاهد والقبور والأضرحة, فهذا من الشرك الذي ليس بعده مفسدة، كما أن التوحيد مصلحة ليس بعدها مصلحة, قال تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء:81].
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله تبارك وتعالى على قوله حول هذه الآيات المباركات التي تكلمنا فيها عن عتاب النبي صلى الله عليه وسلم إن صح إدراجه في العتاب, ثم ذكرنا قضية إرشاد الله لنبيه إلى إقامة الصلاة في وقتها, وإلى تفضيله بقيام الليل, وإلى المقام المحمود الذي وعد الله نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم, وصلى الله على محمد وعلى آله, والحمد لله رب العالمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته