ثم قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] والعهود يجب إيفائها مع الكافر أو مع المؤمن، وسيسأل الإنسان عنها كما قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وبعض العقود تلزم ديانة ولا تلزم قضاءً، وبعضها يلزم ديانة وقضاءً، مثلاً: إنسان قال لإنسان: أنا أريد أن اشتري سيارة لكن لا أملك أموالاً، وأنت رجل ذو ثراء ولك في التجارة، فيقول له الآخر: إن اشتريت سيارة بنية بيعها لك فهل تشتريها؟ فقال الأول: نعم، فاشترى الرجل السيارة غير راغب فيها، لكنه يريد أن يبيعها، فلما اشتراها بمائة ألف قال لصاحبه: قد اشتريتها وهي الآن في حوزتي وأريدك أن تشتريها، فرفض الأول وقال: لا أريدها، فهذا لا يلزم قضاءً، لكن ديانة قد يأثم عند كثير من العلماء، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ} [الإسراء:34 - 35] وهذا من حقوق الناس وقد جاء فيها: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1]، ثم قال: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء:35].
ثم قال الله وهي الآية التي نختم بها هذا اللقاء: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] يسأل الإنسان عن سمعه وبصره وفؤاده، ومن أعظم ما يسأل عنه: إذا تجرأ على القول على الله جل وعلا بلا علم، وقد مر معنا أن عامراً بن الضرب أحد العرب في الجاهلية كانت الناس تأتيه وفوداً يحتكمون إليه في مسائل، فجاءه ذات مرة قوم في ميراث خنثى، هل يعطى من الميراث على أنه ذكر أو يعطى من الميراث على أنه أنثى؟ وكان عنده جارية تقوم على غنمه وفيها تأخر شديد إذا ذهبت بالغنم، فهي لا تستيقظ باكراً ولا تعود في حينها، وكان عامر يعاتبها واسمها سخيلة، فذات مرة جاء هؤلاء العرب يحتكمون إليه باعتباره رجلاً تشد إليه الرحال في مثل هذه المسائل، فأقامهم في داره وأخذ يذبح لهم حتى كادت تفنى غنمه؛ لأنهم يطعمون والمسألة لم تنته، فسألته سخيلة وهي ترى سيدها يغدو ويروح في البيت، فأخبرها الخبر ساخراً منها، وقد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، فقالت له متعجبة: أتبع الحكم المبال، يعني: إن كان مع هذا الخنثى آلة الذكورية فهو رجل، وإن كان معه آلة الأنوثة فهو امرأة، وأعطه الحكم على هذا السياق، فأصبح يرددها فرحاً بها، وحكم بينهم بعد أربعين يوماً وهم في ضيافته وانصرفوا، فسار وهو يقول: صبحي أو مسي يا سخيلة! يعني: تأخري أو لا تتأخري فأنت معذورة.
قد يقول قائل لك: ما علاقة هذا بقول الله جل وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36] وهذه قلادة علمية، قال الإمام الأوزاعي معلقاً على القصة قال: هذا رجل جاهل لا يرجو جنة ولا يخشى ناراً توقف في حكم أربعين يوماً فكيف يأتيك أحد يتجرأ على مسألة ويفتي فيها ما بين عشية وضحاها، وربما كان لا يملك الآلة العلمية على الحكم فيها، ويوقع فيها عن شرع الله جل وعلا؛ لأنه لم يفقه معنى قول الله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
وقد قلت مراراً: إن شيخنا الأمين الشنقيطي رحمة الله تعالى عليه في آخر أيام حياته وهذا من أخباره المكررة، لكن أحياناً الفوائد تلزم بالإعادة، جاءه وفد من الكويت يسألونه والشيخ رحمه الله في أخريات حياته توقف كثيراً عن الفتوى، فأخذوا يلحون عليه بالسؤال وقد ضربوا له أكباد الإبل، فالشيخ بعد إلحاح قال: أجيبكم بكلام الله، ففرحوا، وأصلح من جلسته ثم قال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، فلما ألحوا عليه زيادة قال: قال فلان كذا، وقال فلان كذا، وقال فلان كذا، وأنا لا أحمل ذمتي من كلام الناس شيئاً.
والمقصود: أن يؤسس طالب العلم نفسه أولاً على خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] لكن إن طلب العلم وهو ينظر إلى الساعة التي يتصبر فيها فيسأل ويجيب حتى لو تكلف ما لا يعلم من أجل أن يسد فراغاً في نفسه، فهذا قد يهلك من حيث لا يشعر، وكان الأخيار قبلنا -نسأل الله أن يغفر لنا- يربي أحدهم نفسه على أن يقول: لا أدري، حتى لا تصاب مقاتله، والآية ليست محصورة في هذا؛ لأن الله قال بعدها: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
نسأل الله أن يحفظنا في أسماعنا وأبصارنا وسائر جوارحنا، إن ربي لسميع الدعاء.
هذا ما تيسر إيراده، وأعان الله على قوله.
وصلى الله على محمد وعلى آله.
والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.